لندن | لعلّ أفضل تعليق على نتيجة الانتخابات العامة اليونانية التي أجريت أول من أمس، وانتهت إلى إزاحة حزب «سيريزا» ـــ يسار الوسط ـــ من السلطة، لمصلحة حزب «الديموقراطية الجديدة» ـــ يمين الوسط ـــ، جاء من مفوّض الاتحاد الأوروبي لشؤون الاقتصاد والمال، بيار موسكوفيتشي، الذي توجّه إلى رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس بالشكر الجزيل «بعدما قدّم الكثير لبلاده ولأوروبا». من الواضح أن الناخبين اليونانيين يتفقون مع موسكوفيتشي في الشق المتعلق بأوروبا، ذلك أنهم بلغوا مرحلة من اليأس الشديد من تسيبراس وحكومته، إلى درجة أنهم صوّتوا لإعادة السلطة إلى النخبة اليمينية التي كانت تسبّبت أصلاً في الأوضاع الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها البلاد، منذ تفجّر الأزمة المالية العالمية عام 2008، فكأنهم يريدون شطب مرحلة حكم اليسار من ذاكرتهم بالكامل. لكن مفاعيل هذا العقد المفقود من عمر اليونان لن تتلاشى بسهولة، بغض النظر عمّن سيمسك بمفاتيح السلطة بعد «سيريزا»، إذ إن البلاد قُيّدت بترتيبات مالية وإجرائية مخلّة بالسيادة، وضاقت ظروف العيش بمعظم مواطنيها على نحو غير مسبوق، من دون أن يكون هناك أي أفق لمستقبل أفضل، بل وينبغي على الأجيال المقبلة أن تستمرّ في تسديد ديون راكمتها النخبة الفاسدة ذاتها، لغاية عام 2060 على أقلّ تقدير.وبحسب النتائج الرسمية، فإن حزب «الديموقراطية الجديدة»، الذي يقوده كيرياكوس ميتسوتاكيس، حصل على ما يقرب من 40% من الأصوات وأكثر من نصف مقاعد البرلمان الـ300، الأمر الذي يؤهله للانفراد بتشكيل الحكومة، بينما حصل حزب «سيريزا» على 31.5% من الأصوات، لينتقل إلى مقاعد المعارضة. وتقاسمت أحزاب يسارية أخرى غالبية ما تبقى من الأصوات: «الحركة من أجل التغيير» 8.3%، و«الحزب الشيوعي» 5.3%، وحركة «DiEM25»
3.4%، في الوقت الذي وجّه فيه الناخبون صفعة لحزب «الفجر الجديد» ـــ أقصى اليمين ـــ الذي لم يتمكن من تجاوز حاجز الـ3% من مجموع الأصوات لاستحقاق التمثيل، وسيفقد لذلك مقاعده الـ18 جميعاً، التي كان يسيطر عليها في البرلمان السابق، كما مكانته كقوة ثالثة في البلاد.
تسيبراس بدا مرتاحاً على رغم كل شيء، وهو سارع حتى قبل إعلان النتائج النهائية إلى مهاتفة ميتسوتاكيس ليهنئه بـ«ثقة الشعب». هو كان يتوقع حصيلة أسوأ بكثير بعد نتيجة الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، بنسختها اليونانية، والتي بالكاد حصل «سيريزا» فيها على 21% من الأصوات. ولا شكّ في أنه، بحصول حزبه على 31% الآن، قد ضمن بقاءه شخصياً بشكل أو بآخر في اللعبة السياسية. بالتالي، سيسمح تركه لمسؤوليات السلطة، له ولزمرة رفاقه المقرّبين، بإعادة ترتيب أوراقهم بعد فترة عصيبة للجميع، وربما صياغة عودة مستقبلية في إطار متجدد.
في بروكسل، يسود ارتياح عام إلى هذه النتائج، إذ إن حلفاءها من البورجوازيين (الديمقراطية الجديدة)، ويساريي «سيريزا»، يسيطرون على 75% من مقاعد البرلمان الجديد، فيما أُبعد القوميون المتطرفون المزعجون ـــ المعادون للاتحاد ـــ بالكلية منه، وبالتالي فكل شيء سيكون هادئاً في أثينا لبعض الوقت. وعلى الرغم من فوز حركة «DiEM25» ــــ حزب يانيس فاروفاكيس وزير المالية السابق الذي كان قد انشق عن «سيريزا» لحظة الاستسلام للترويكا الأوروبية والمعارض الصلب لسياسات الاتحاد الأوروبي التقشفية ــــ بتسعة أو بعشرة مقاعد، فإنه لن يكون أكثر من ظاهرة صوتية يمكن التعايش معها، حتى لو نجح فاروفاكيس في توحيد أحزاب اليسار في كتلة واحدة. الأوروبيون مطمئنون إلى المستقبل القريب أيضاً، وإن لم تعمّر الحكومة الجديدة في السلطة أكثر من أربعة أعوام وعاد الناخبون اليونانيون لإقصائها، إذ لا أحد يبدو قادراً على تقديم أي نموذج سياسي جديد للشعب سواء في اليمين أو اليسار.
بدا تسيبراس مرتاحاً للنتيجة وهو سارع إلى تهنئة ميتسوتاكيس بـ«ثقة الشعب»


حزب «الديموقراطية الجديدة»، الذي سيكلّف زعيمه ميتسوتاكيس بتشكيل حكومة جديدة، كان قد تعهّد للناخبين اليونانيين ـــ أو من تبقى منهم بعد هجرة مئات الآلاف إلى دول أخرى ـــ بتخفيض الضرائب وزيادة فرص العمل (علماً بأن البلد يعاني من أعلى نسبة بطالة في كل الاتحاد الأوروبي، بلغت 18% هذا العام)، وبتشجيع الاستثمار. لكنه بالطبع لم يذكر أي شيء عن تغيير في سياسات التقشف القاسية المفروضة على المواطنين، والتي لم تعد لأي أحد في حكومة أثينا القدرة على تغييرها.
ميتسوتاكيس شخصياً نموذج يوناني مثالي عن أبناء النخبة المحافظة التي أنهكت البلاد، وتسببت في إفلاسها وفقدانها استقلالها، ومن النوعية التي تَطمئن بروكسل، تماماً، لتوليها السلطة. فالرجل القادم إلى قمة جبل الأولمب المفلس مدير مصرف، ووالده رئيس وزراء يميني سابق، وأخته وزيرة خارجية سابقة، وابن أخيه عمدة أثينا الحالي. وهو سليل واحدة من أسرتين تتقاسمان صناعة السياسة تجاه اليمين. وبفضل سقوط «سيريزا»، اليساري الذي أهداه السلطة على طبق ولو من خشب، بات لديه الآن تفويض للاستمرار في سياسات التقشف، مع تخفيض الضرائب، الأمر الذي سيستفيد منه الأثرياء. أما خارجياً، فإن اليونان مرشحة، وفق هذه المعطيات، للاستمرار كدولة شبح في الاتحاد الأوروبي لا يُخشى من تصويتها في شأن أي قضية خارج رغبات برلين، وعضو مطيع في «حلف شمال الأطلسي».