قرار إلغاء الحكم الذاتي الذي تمتّعت به كشمير، وفقاً للمادة 370 من الدستور الهندي، بموجب مرسوم رئاسي أصدرته حكومة حزب «بهاراتيا جناتا» الهندوسي المتطرف، يُعدّ من منظورها انتصاراً تاريخياً سيمكّنها من إعادة صياغة النظام السياسي الهندي وفرض تعريفها لهوية البلاد. هذا النظام والهوية حملا بصمات حزب «المؤتمر»، حزب المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو، الذي قاد النضال من أجل تحرير الهند من الاستعمار البريطاني، وحرص على بناء دولة وطنية تتسع للتعدد القومي والديني بضمان من دستورها، وبما ينعكس في بنية مؤسساتها. الهند، بالنسبة إلى نارندرا مودي، رئيس حكومتها، ووزير داخليته المؤثر آميت شاه، الرئيس الحالي لحزب «بهاراتيا جناتا»، والعقل السياسي لمودي بحسب البعض، هي دولة الهندوس أساساً، وسياساتهما تترجم هذا الاقتناع. إلغاء الحكم الذاتي لكشمير كان بنداً بارزاً في برنامج حزبهما. لكن هذا القرار لم يكن محكوماً باعتبارات عقائدية وسياسية ــــ انتخابية داخلية فقط، بل نجم أيضاً عن مفهوم هذا الفريق للأمن القومي لقوة إقليمية كبرى كالهند، ورؤيته لسياستها الخارجية، في سياق عالمي، وقاري آسيوي، تتسارع فيه التحولات وتتغير فيه التحالفات. وهو بلا أدنى شك في مثل هذا السياق مُوجّه ضد باكستان والصين.أدرج رئيس الوزراء الهندي قراره حيال كشمير في إطار «الحرب على الإرهاب». تشهد كشمير منذ عام 1989 نمواً لتيارات انفصالية، بعضها سلفي جهادي يؤمن بالعنف، فيما حظي قسم منها بدعم باكستاني، وقد ارتبط هذا النمو بمجريات الحرب الأفغانية. الهند كانت من بين الأطراف التي ساندت تحالف الشمال الأفغاني خلال صراعه مع حركة «طالبان» المؤيَّدة من باكستان، ورأت في هزيمتها بعد الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 صدّاً لتوسع النفوذ الباكستاني باتجاه هذا البلد. بعد 18 سنة من الحرب، وسبع جولات تفاوض بين الولايات المتحدة و«طالبان»، تجري الرياح بما لا تشتهيه الهند. في مقال بعنوان لافت، هو «قرار الهند حول المادة 370 أتى متأخراً 6 أشهر»، رأى الدبلوماسي الهندي المتقاعد والخبير البارز في القضايا الاستراتيجية، م. ك. بدراكومار، أن احتمال التوصل الى اتفاق بين واشنطن و«طالبان» يؤدي إلى انسحاب للقوات الأميركية، ويعزز من موقع باكستان الإقليمي باعتبارها شريكاً لا بد منه لأميركا، بات عالياً جداً. يشير بدراكومار بداية إلى الاعتدال الشديد في لهجة بيان «طالبان» تجاه التطورات في كشمير، والذي دعت فيه الهند وباكستان إلى عدم القيام بما من شأنه زيادة التوتر بينهما، وإلى وساطة دولية لإيجاد حل للأزمة، مشددة على عدم وجود أي صلة بينها وبين الوضع في أفغانستان. هو يجزم بأن البيان صدر بتوجيه مباشر من قيادة الجيش الباكستاني في روالبندي، ضمن مسعًى غايته ربح الوقت وعدم إثارة ردة فعل هندية قبل التوصل إلى تفاهمات نهائية بين الأميركيين و«طالبان» بفضل «الوسيط» الباكستاني. ويعتقد الدبلوماسي الهندي المتقاعد أن إصرار «طالبان»، خلال مفاوضاتها مع الأميركيين، على انسحابهم الكامل من أفغانستان هدف إلى إيجاد مقعد لباكستان حول الطاولة للمساعدة على «تليين» موقف الحركة من استمرار مستوى معين من الوجود العسكري والأمني الأميركي في بلدها. هذا الوجود ضرورة حيوية في إطار استراتيجية الاحتواء المزدوج التي تعتمدها الولايات المتحدة ضد الصين وروسيا. وتأمل باكستان، في مقابل هذه الخدمة التي تقدمها، أن تتدخل الولايات المتحدة للحؤول دون تصعيد هندي كبير تجاهها في حال ارتفاع حدة النزاع في كشمير. لكن الخطوة الهندية جاءت متأخرة وفقاً لبدراكومار، لأن وقع الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والذي سيسفر عن هزيمة لقوة كبرى كأميركا أمام حركة مقاومة شعبية كـ«طالبان»، سيتجاوز الحدود الأفغانية وستكون له تداعياته الكارثية في كشمير. قرار إلغاء حكمها الذاتي يصبح بنظره، وهو ليس من مؤيدي مودي وحزبه ويعبر عن وجهة نظر قطاع وازن من النخب الهندية، خطوة استباقية لمواجهة المخاطر المترتبة على الانسحاب. لكن بدراكومار لا يعير الحد الأدنى من الانتباه للأوضاع الداخلية في كشمير، والأسباب العميقة لشعور سكانها بالغبن نتيجة لسياسات الحكومة الهندية وأجهزتها الأمنية المتبعة معهم.
قرار الهند الأخير بخصوص كشمير لم يكن محكوماً باعتبارات عقائدية وسياسية داخلية فقط


اعتبار آخر لا يعيره اهتماماً عند تحليله خلفيات قرار حكومة مودي، وهو التجاذب الاستراتيجي الهندي ــــ الصيني في وسط آسيا وجنوبها. هذا المعطى ليس جديداً بين القوتين الصاعدتين، لكنه غدا أكثر حدة بعد وصول مودي، صاحب النزعة الإمبراطورية والشديد العداء للصين، إلى السلطة، واتّباع الولايات المتحدة سياسة الاستدارة نحو آسيا، المُوجّهة ضد الصين أولاً منذ إدارة باراك أوباما، والتي انتقلت إلى صراع مفتوح معها في ظلّ إدارة دونالد ترامب. الرؤى المتماثلة لـ«الخطر الصيني» أفضت إلى تطور مطّرد لشراكة استراتيجية بين البلدين في مقابله. يقول فيناي كورا، الأستاذ المساعد في قسم الشؤون الدولية والدراسات الأمنية في جامعة سردار باتل في الهند، في مقال نشره على موقع «ذو ديبلومات»، إن «العلاقات بين الولايات المتحدة والهند شهدت تنامياً مهماً في العقدين الأخيرين، مع تقاطع في الرؤى حول العديد من القضايا. جميع الرؤساء الأميركيين، من بيل كلنتون إلى دونالد ترامب، عملوا على تعميق تلك العلاقات. وقد باشر ترامب بعد وصوله إلى السلطة في عملية إغواء حقيقية لمودي الذي لم يفوّت الفرصة لبناء صلة شخصية قوية معه. وافقت إدارة ترامب على حصول الهند على التكنولوجيا المتصلة بالدفاع (عبر ترخيص تجاري استراتيجي)، ذاهبة خطوة أبعد من إدارة أوباما التي كانت قد رأت في الهند شريكاً دفاعياً أساسياً. لقد حلّ تعبير «منطقة الهند والمحيط الهادئ» في مكان «منطقة آسيا والمحيط الهادئ» في الخطاب الدبلوماسي الأميركي. وتغيّر اسم «القيادة الأميركية للمحيط الهادئ» ليصبح «قيادة منطقة الهند والمحيط الهادئ» للتأكيد على الصلة الاستراتيجية بين المحيطين الهندي والهادئ. المخاوف الأميركية من أكثر المشاريع الجيوسياسية طموحاً للرئيس الصيني شي جين بنغ، مبادرة «حزام واحد طريق واحد»، تلاقي آذاناً أكثر من صاغية في نيودلهي، التي ترى أنها تهدد المصالح الأمنية الهندية. ويبدو أن البلدين يعتزمان التصدي للتوسع البحري الصيني الذي يهدد بنظرهما طرقهما التجارية في المحيطين الهندي والهادئ». أحد تجلّيات هذا العزم هو المشاركة المتزايدة للهند في مناورات بحرية مع الولايات المتحدة ودول أخرى حليفة لها كالفيليبين واليابان، تُؤوّل على أنها أيضاً تعزيز للعلاقات مع هؤلاء الحلفاء ودعم لهم في مواجهة الصين. ويأتي التوتير في كشمير، ومع باكستان، كجزء من سياسة هندية ــــ أميركية لزعزعة مبادرة «حزام واحد طريق واحد». فالشراكة الصينية ــــ الباكستانية، التي انتقلت إلى مرحلة جديدة مع توقيع اتفاق الممرّ الاقتصادي الصيني ــــ الباكستاني سنة 2013، والذي يبدأ من قشغر في مقاطعة كسين كيانغ في الصين، ويصل إلى ميناء غوادار في غرب باكستان، تحتلّ موقعاً مركزياً في المبادرة المذكورة. وحتى في حال حصول الانسحاب الأميركي من أفغانستان بموجب تفاهمات تتيح بقاء وجود عسكري وأمني أميركي محدود بالضرورة، إلا أن الاتجاه الثقيل للتطورات، والقوة المتعاظمة للشراكة الصينية ــــ الباكستانية، سيسمحان باستقطاب أفغانستان ما بعد الانسحاب الأميركي إلى دائرة هذه الشراكة، الأمر الذي لا ترتاح له الهند الراهنة أبداً.
ويذكر ريشارد لابفيير، الخبير الفرنسي في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، نقلاً عن مصدر دبلوماسي فرنسي، أن «القرار الهندي المفاجئ بالنسبة إلى كشمير ستنجم عنه بؤرة توتر جديدة ومسرح لحرب لامتوازية في مواجهة الصين وحلفائها، وفي مقدمهم باكستان التي تمثل حجر الزاوية في سياسة طريق الحرير وعقد اللؤلؤ الصينية». ويختم لابفيير، على ضوء هذه التطورات، بأن «الحرب لم تعد، حسب تعريف كلاوزفيتز، استمراراً للسياسة بوسائل أخرى، بل أضحت استمراراً للحرب بوسائل أخرى». حربٌ بين أميركا الإنجيليين الجدد و«دولة الهندوس» من جهة، و«أرض الأطهار» (باكستان) و«إمبراطورية الوسط» (الصين) من جهة أخرى.