طهران | تُعدّ العلاقات الإيرانية ــــ التركية، حتى الآن، إحدى أكثر العلاقات ثباتاً بين دول العالم تاريخياً. الحدود التي رُسمَت بعد «اتفاقية قصر شيرين» بين إيران والإمبراطورية العثمانية منذ نحو 400 عام، احترمها الجانبان خلال كل هذه المدة، ولم تواجه أي مشاكل أو عراقيل، علماً أن إيران وتركيا دخلتا حروباً متعددة قبل تلك الاتفاقية. وربما أمكن القول إن أحد أسباب اعتناق الإيرانيين المذهب الشيعي، كان التوحد مقابل الإمبراطورية العثمانية وتدخلاتها في الشؤون الإيرانية، قبل وصول الصفويين إلى السلطة في إيران.بعد «اتفاقية قصر شيرين» أضحت العلاقات ممتازة، وتطوّرت لتتحول إلى ائتلاف يجمع الدولتين مع باكستان خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي باسم «اتحاد السنتو»، وأُلغيَت التأشيرات بين البلدين منذ عام 1962، لتضحي تركيا أحد أكثر مقاصد الإيرانيين السياحية جاذبية. وعلى الرغم من أن الأميركيين حاولوا إحداث انقلابات عسكرية متعددة في تركيا لمنع تأثير الثورة الإسلامية الإيرانية في الشارع التركي، توجّه هذا الشارع في النهاية نحو انتخاب حكومة تميل إلى الإسلاميين من «الإخوان المسلمين». ولا يُغفل، هنا، أن الحركات الإسلامية في إيران قبل الثورة تأثّرت كثيراً بأفكار «الإخوان» أيضاً، ولربما أفضل دليل على ذلك، أن المرشد علي خامنئي ترجم العديد من كتب «الإخوان» إلى الفارسية.
وعلى الرغم من وجود خلافات سياسية بين البلدين في بعض الملفات، مثل الأزمة السورية، فإن العلاقات تطورت بعد الثورة الإيرانية كطوراً سريعاً جداً، ولا سيما الاقتصادية والتجارية. تطورٌ جعل الأتراك يرفضون تنفيذ العقوبات الأميركية على إيران، على رغم التهديدات الأميركية، إذ إنهم أبقوا الأبواب التجارية مفتوحة مع الجمهورية الإسلامية، إلى درجة أنهم باتوا اليوم ثاني أكبر شريك تجاري لها في المنطقة بعد العراق. وفي حين أن العلاقات التجارية كانت تعادل حدود مليارَي دولار في العام مع بداية القرن الحالي، فهي تطورت إلى ما يزيد على 15 مليار دولار رسمياً، وما يعادل 30 مليار دولار بشكل غير رسمي، بالنظر إلى أن حجماً كبيراً من البضائع يُهرَّب إلى إيران من تركيا أو عبر «كردستان العراق»، ولا يُسجَّل رسمياً في السجلات.

بعد الثورة
واجهت تركيا انقلاباً عسكرياً مدبّراً من قِبَل الولايات المتحدة بعد الثورة في إيران، في محاولة لجعلها، مثل العراق، سدّاً أمام انتشار الثورة الفتية باتجاه الغرب. لكن بعد وصول الراحل تورغوت أوزال إلى منصب رئاسة الجمهورية، بدأت العلاقات بالتحسّن؛ إذ إن أوزال، الذي أراد أن تستفيد بلاده اقتصادياً من الحرب الإيرانية ـــ العراقية الدائرة آنذاك، اتخذ خطوات لفتح القنوات التجارية، واستطاع تحويل تركيا إلى أحد المعابر التجارية الإيرانية، على الرغم من محاولات الولايات المتحدة لعرقلة هذه الخطط عبر تحريك الشارع العلماني في تركيا ضد العلاقات مع دولة دينية.
ولم تواجه علاقات البلدين أي مشكلة بعد الثورة، إلا خلال فترة قصيرة جداً بسبب اغتيال بعض المعارضين الإيرانيين الأكراد في مقهى «ميكونوس» الألماني، وما تلاه من سحب الأوروبيين لسفرائهم من إيران. وهو إجراء انضمّت إليه تركيا، في محاولة لتظهير نفسها ضمن الاتحاد الأوروبي، لكن العلاقات عادت إلى طبيعتها بعد شهرين تقريباً، ليتشكّل لاحقاً اتحاد تجاري بين إيران وتركيا وباكستان سُمّي «ECO»، انضمت إليه دول عديدة في المنطقة، انفتحت بفعل ذلك أسواقها بعضها على بعض. بعد وفاة أوزال، وصل سليمان ديميريل إلى السلطة في تركيا، واستمرّ في انتهاج خطّ سلفه. وبعد ديميريل، وصل العلماني أحمد نجدت سيزير، لكنه استمر في توطيد العلاقات مع إيران ولم يوقف حركة أسلافه، نظراً للفوائد الاقتصادية التي كانت تدرّها على تركيا.
أوج التطور في العلاقات بعد الثورة بدأ مع وصول عبد الله غول إلى سدّة الرئاسة، ورجب طيب أردوغان إلى منصب رئاسة الوزراء. قبل أردوغان، كان نجم الدين أربكان أول رئيس وزراء تركي يرتبط بعلاقات وثيقة مع إيران، إذ قام بزيارتها ووقّع اتفاقيات اقتصادية ضخمة معها، أهمها مدّ تركيا بالغاز الإيراني. وفي عهده، أنشأ البلدان مجموعة الـ«D 8» التي ضمّت أكبر الدول الإسلامية اقتصادياً. لكن أربكان واجه انقلاباً أبيض في الداخل التركي، اعتقد البعض أن العلمانيين قاموا به بدعم أميركي بسبب قرب الرجل من إيران.

«العدالة والتنمية» في السلطة
استطاع تلامذة أربكان من الإسلاميين أن يسيطروا على السلطة في أول انتخابات جرت بعد إسقاط أربكان، ليصل حزب «العدالة والتنمية» إلى الحكم عام 2002. هنا، بدأت العلاقات تتحسّن سريعاً، خصوصاً أن وصول «العدالة والتنمية» تزامن مع فرض أول عقوبات دولية على إيران بسبب برنامجها النووي. استغلّت تركيا هذه الفرصة كي تعرض نفسها وسيطاً لإيران في التجارة مع الدول الأخرى وتخطّي العقوبات. ويعتقد البعض أن هذه الوساطة تركت أثراً إيجابياً في الاقتصاد التركي الذي كان يعاني من تضخم كبير قبل حكم «العدالة والتنمية».
لكن ذلك لم يمنع بروز الخلافات في موضوعين أساسيين: الأول الملف السوري، والثاني استقرار الأنظمة الصاروخية لـ«الناتو» ضد إيران في تركيا، إلى جانب خلافات جزئية لم تظهر إلى العلن في شأن دعم تركيا للحركات التركية من الآذريين في الداخل الإيراني وآذربايجان، وموقف الدولتين من أزمة نيغورني كاراباغ بين آذربايجان وأرمينيا. وعلى رغم هذه الخلافات، خاصة بشأن سوريا، فإن العلاقات لم تنقطع، واستطاع الجانبان العبور فوقها من خلال الدبلوماسية. واليوم، هما يتعاونان في مجال حلّ الأزمة السورية، بعدما اقتنع الأتراك بموقف إيران من الأزمة، القاضي بضرورة بقاء السلطة الشرعية المتمثلة بالرئيس بشار الأسد لحفظ وحدة البلاد، وجلوس السوريين أنفسهم إلى طاولة المفاوضات لحلّ مشاكلهم فيما بينهم. ويمكن اعتبار مفاوضات آستانة، التي ترعاها اليوم إيران وتركيا وروسيا، نموذجاً للتعاون الإقليمي الإيراني ــــ التركي.
يمكن تلخيص الخلافات في موضوعين أساسيين: سوريا وصواريخ «الناتو»


كذلك، كانت إيران أول دولة وقفت رسمياً، وفي اللحظات الأولى، إلى جانب الرئيس رجب طيب أردوغان والحكومة الشرعية التركية في مواجهة الانقلاب العسكري الذي دبّره - بحسب الإشاعات - الأميركيون والإمارات والسعودية. وفي المقابل، قدّر الأتراك الموقف الإيراني، لتتحسّن العلاقات كثيراً بعد إفشال الانقلاب. أيضاً، وقف البلدان إلى جانب قطر عندما قاطعتها السعودية والإمارات والبحرين ومصر. وفيما فتحت إيران أجواءها ومياهها الإقليمية أمام القطريين، أرسلت تركيا الآلاف من جنودها إلى الدوحة عبر الأجواء الإيرانية. وبهذا، أكدت طهران وأنقرة أنهما لن تسمحا للدول الكبيرة في المنطقة بابتلاع الدول الصغيرة.
وتستورد تركيا قرابة ثلث ما تحتاجه من الطاقة من إيران، فيما تستورد إيران شتى أنواع البضائع التركية، إضافة إلى بضائع الدول الأخرى بشكل ترانزيت من تركيا. ويعتبر ترانزيت البضائع الإيرانية عبر تركيا إلى أوروبا، وبالعكس عبر إيران إلى منطقة الخليج الفارسي وشبه القارة الهندية، شريان حياة اقتصادياً للبلدين. وفيما كانت العلاقات التجارية لا تزيد على 2.4 مليار دولار عام 2002 عندما وصل «العدالة والتنمية» إلى السلطة، فإنها وصلت إلى ما يزيد على 22 مليار دولار عام 2012، وتراجعت إلى نحو 15 مليار دولار بعدها رسمياً، لتتزايد التجارة غير الرسمية بسبب العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي على إيران. وبحسب الإحصاءات الرسمية، فإن العلاقات التجارية بين البلدين بقيت على هذا المستوى حتى اليوم.

خاتمة
العلاقات الإيرانية ــــ التركية باتت اليوم أقوى من أن تتمكن الولايات المتحدة من فرض إرادتها عليها. والروابط الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الموجودة بين البلدين من شأنها تقوية روابطهما السياسية، والدليل أن قتال الدولتين على جبهتين مختلفتين في سوريا لم يؤدّ إلى خفض مستوى العلاقات. واليوم، الظروف السياسية، الإقليمية والدولية، والضغوط الأميركية على الدولتين تؤدي إلى تقارب أكبر يوماً بعد يوم.



العلاقات الأمنية والعسكرية
تخلق عضوية تركيا في منظمة «الناتو» عراقيل متعددة أمام التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، لينحصر هذا التعاون فى مواجهة تهريب المخدرات والبشر ومواجهة الإرهاب بحسب اتفاقية وقّعها البلدان عام 1990. وبعد الانقلاب العسكري الذي واجهته تركيا والخلافات التركية ــــ الأميركية، خاصة في شأن دعم الولايات المتحدة للمقاتلين الأكراد في سوريا، بدأت العلاقات العسكرية والأمنية بالتطور، ويمكن القول إنها تُوِّجت بزيارة رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، اللواء الركن محمد باقري، لتركيا عام 2017، حين عقد الجانبان اتفاقيات أمنية وعسكرية، بينها اتفاقيات لتدريب الكوادر العسكرية والتعاون في مجالات الصناعات الدفاعية. وبعد أقلّ من شهر على زيارة باقري، زار قائد أركان القوات المسلحة التركية إيران ووقّع اتفاقيات أخرى في مجال مكافحة الإرهاب والتهريب ومواجهة الحركات الكردية الانفصالية، إضافة إلى التعاون في مجال حلّ الأزمة السورية سلمياً.


العلاقات الثقافية
تمتدّ العلاقات الثقافية بين إيران وتركيا إلى ما قبل ميلاد المسيح، حين كانت إيران تُعرف ببلاد فارس، وتركيا تُعرف بآسيا الوسطى ضمن الإمبراطورية الفارسية. مثلت اللغة الفارسية اللغة الثقافية للبلاط العثماني، حيث كان الخلفاء العثمانيون يسردون الأشعار باللغة الفارسية. في المقابل، كانت اللغة التركية لغة الملوك القاجار في إيران، المنحدرين من أصول تركية. وبما أن نحو 40% من الإيرانيين من أصول آذرية تركية ويتكلمون باللغة الآذرية، يمكن القول إن إيران أيضاً متأثرة بالثقافة التركية، والحضور الكبير للإيرانيين في تركيا يؤدي إلى نقل الثقافة الإيرانية إلى تركيا أيضاً.
ولكن، بالشكل الرسمي، العلاقات الثقافية لا تزال محصورة في تبادل الأفلام والمحاصيل الثقافية، إضافة إلى إقامة أسابيع ثقافية بين البلدين بمناسبات خاصة. وبما أن هناك العديد من الشعراء والأدباء المشتركين بين البلدين، هناك خلافات على هوية عدد منهم. خلال العقد الماضي، استطاعت السينما التركية أن تجذب الجمهور الإيراني نظراً لقرب الثقافة بين البلدين، وبات عدد كبير من الإيرانيين من متابعي الأفلام والمسلسلات التركية. وفي المقابل، استطاعت السينما الإيرانية اختراق الجمهور التركي منذ أكثر من 30 سنة، إذ إن العديد من الأتراك من متابعي الأفلام الإيرانية أيضاً.