«ثبّت مصطفى أتاتورك وجود تركيا في أوروبا والغرب بمفهومه الأوسع عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية. بعد مرور قرن من الزمن، يعكس رجب طيب أردوغان هذه العملية». بهذه العبارة بدأت مجلة «ذي إيكونوميست» إحدى مقالاتها التي تناولت فيها العلاقة المتزعزعة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، والتي شهدت في السنوات الأخيرة توترات عدّة، على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة، وما تبعتها من إجراءات اعتمدتها السلطات في تعاملها مع معارضيها. المجلّة البريطانية وصفت السعي التركي للانضمام إلى التكتل الأوروبي بأنه بات أقرب إلى «المزحة»، ولا سيما أن «آسيا الصغرى» ابتعدت عن الاتحاد الأوروبي أكثر من أي وقت مضى، لتقترب من «جيرانها الشرقيين». قد تبدو هذه المقاربة متطرّفة بعض الشيء، وغير بعيدة عن المنطق في الوقت ذاته. لكن ذلك لا يجعل منها حقيقة مطلقة، بل ربّما وضعها في إطار المخاوف الأوروبية «المشروعة»، التي تتكرّر بصيَغ مختلفة. وقد وصل الأمر بسنان أولغن، مثلاً، إلى نعي المحادثات التركية ـــ الأوروبية، في مقال في مجلة «فايننشل تايمز»، مُعلناً نهاية رسمية للرحلة السياسية التي بدأت عام 1963، خصوصاً بعدما أعلنت أنقرة عزمها على وقف العمل باتفاق الهجرة الذي جرى التوصل إليه في آذار/ مارس 2016، والذي التزمت بموجبه وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا، في مقابل الوعود بالمساعدات المالية وتأشيرات الدخول. ليس خافياً على أحد أن السبب وراء نية تركيا الانسحاب من اتفاق الهجرة هو العقوبات التي أعلنها الاتحاد الأوروبي عليها، بحجّة تنقيبها عن الغاز في المياه المحيطة بقبرص، العضو في الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال ثلثه الشمالي خاضعاً لسيطرة تركيا. وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات العقابية تبدو ضعيفة وغير فعّالة، وتنحصر في «خفض المساعدات المالية، وتعليق اتفاقية الطيران، وإيقاف المحادثات الرفيعة المستوى»، إلا أنها جاءت في وقت تشهد فيه تركيا خضّة تلو الأخرى، بينما يعاني اقتصادها من مشاكل كثيرة، تجلّت في جزء منها في تراجع قيمة الليرة. أمام كلّ ذلك، وقف الاتحاد الأوروبي متفرّجاً، من دون مبادرة تُذكر تجاه الدولة الجارة، منذ الانقلاب حتى الأزمة الاقتصادية، مروراً بمحطات السياسة العدائية التي يتّبعها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حيال أنقرة. قد يعتقد الغرب أن الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعانيه تركيا، ومعه تراجع شعبية أردوغان، سيجبران الأخير على العودة إلى «الحظيرة». لكن من وجهة نظر الرئيس التركي، إن «الاتحاد الأوروبي هو الذي يحتاج إلى عضوية تركيا»، على اعتبار أنه «إذا ما أراد الاتحاد أن يصبح لاعباً عالمياً، عليه أن يكسب تركيا أولاً، وألّا يفرّط بعضويتها فيه بسبب مطامع بعض الدول».
تشغل تركيا موقعاً استراتيجياً أساسياً في مبادرة «الحزام والطريق»


ينطلق أردوغان، في مقاربته تلك، من حقيقتين اثنتين يمكن أن ترجّحا الكفة لمصلحة بلاده في العلاقة مع أوروبا، على المديين القصير والمتوسّط: أولاهما حاجة أوروبا إلى تعاون تركيا في ملفَّي الهجرة والإرهاب، ما يجعل من رئيسها ضرورة، ولو كان شريكاً صعباً، لكنه يبقى أفضل من الفوضى، ولا سيما أن الانهيار التركي سيولّد صدمات اقتصادية وموجات جديدة من المهاجرين إلى الأراضي الأوروبية. أما الثانية، والأكثر وضوحاً، فهي أن الاتحاد الأوروبي تنقصه الأدوات للتأثير بتركيا، في ظلّ الانقسام الكبير الذي يعانيه، ومحدودية قدرته على ممارسة سلطته.
كذلك، يرتبط الاتحاد الأوروبي بتركيا باتفاقيات عدة، تجعل الأخيرة خامس أكبر شريك تجاري له، بينما هو حتى الآن الشريك الأول لها، إضافة إلى أنه مصدر استثمار خارجي مباشر فيها. إلا أن ذلك لا يحجب حقيقة أنه بعد أعوام عدة من النمو السريع في تجارة البضائع بين الجانبين، بدت الصورة بدءاً من عام 2018 مختلفة، مع تقلّص الاقتصاد التركي وسط التقلّبات المالية، وعدم اليقين السياسي، وارتفاع معدلات البطالة (15 في المئة حالياً)، والتضخم المتفشي (17 في المئة). ومن هنا، تزداد حاجة تركيا إلى المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر لتمويل النمو الذي يعتمد عليه أردوغان من الناحية السياسية، ما يعني أن بلاده أصبحت أمام واقع لا مفرّ منه متمثّل بضرورة البحث عن «شركاء جدد» من أجل دعم العملة المتدهورة. وهو من هذا المنطلق، أشار، غير مرة، إلى أن أنقرة قد تسعى إلى الحصول على دعم «أصدقاء جدد»، مثل إيران وروسيا والصين.
من بين تلك الدول، تلوح الصين كمصدر الدعم الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى كثيرين في الغرب، خصوصاً أولئك الذين ينظرون إلى أهدافها الجيوسياسية على أنها تتخطّى الاقتصاد إلى تثبيت نفوذ عالمي. وتنظر الصين إلى تركيا كجسر بين أوروبا وآسيا، يشغل موقعاً استراتيجياً أساسياً في مبادرة «الحزام والطريق»، التي تتودّد من خلالها بكين إلى أنقرة، بهدف مدّ طرق تجارية واسعة النطاق إلى أوروبا وغيرها، ما يجعل من ضمن مصالح بكين توسيع السيطرة الاقتصادية في هذه الدولة المأزومة. ولا يخفى على أحد أن خطوات الصين تتناسب مع الصورة التي تسعى إلى رسمها عن نفسها على أنها «سلطة غير مهيمنة»، بديلة من المسار النيوليبرالي الذي يمثّله صندوق النقد الدولي، الذي كانت قد لجأت إليه تركيا في أزماتها الاقتصادية السابقة. ويمكن القول إن بكين استغلّت التطورات السياسية الأخيرة، وتضخّم سلطات أردوغان الرئاسية، إضافة إلى سعيه للاستقلال عن المؤسسات الغربية، لتكون البديل المرحلي من «صندوق النقد». مع ذلك، ثمة عوائق عدّة أمام تطور العلاقات بين الصين وتركيا، على رأسها خلافاتهما في شأن قضية الأويغور، الذين ترتبط أنقرة بهم بعلاقات تاريخية وثيقة. وكان أردوغان اتهم الصين بارتكاب «نوع من المجازر» ضدهم في عام 2009، إلا أنه بقي صامتاً نسبياً عن الموضوع في الزيارات الأخيرة للصين.

يرتبط الاتحاد الأوروبي بتركيا باتفاقيات عدة، تجعل الأخيرة خامس أكبر شريك تجاري له (الأناضول)

عائق آخر يظهر أمام توازن التبادل التجاري بين أنقرة وبكين، يتمثل باختلال هائل قدره 18 مليار دولار لمصلحة الصين. وبالنظر إلى حجم الاقتصاد التركي ــــ أقلّ بقليل من تريليون دولار ــــ يبدو صندوق النقد الدولي وحده الذي يملك الأموال اللازمة لإنقاذه في حال حدوث انهيار مالي، وهذا ما يلفت إليه سونر چاغاپتاي، في تقرير في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، حيث يشير إلى أن «هناك عقبة أمام قيام بكين بتوفير شريان حياة اقتصادي لأنقرة يتمثّل بعلاقاتهما التجارية والمالية الحالية المحدودة نسبياً». أخيراً، على الرغم من تنويع أردوغان لشركاء تركيا التجاريين، إلا أنه لم يظهر أحد منهم، بما في ذلك الصين، كبديل قوي لأسواق البلاد التقليدية في الغرب. ومن هذا المنطلق، يلفت چاغاپتاي إلى أن صادرات تركيا إلى الصين لا تشكّل سوى جزءاً صغيراً من صادراتها إلى أوروبا وأميركا. هذا فضلاً عن أنه بالرغم من ارتفاع الحصة التجارية التركية مع الدول غير الغربية إلى نحو 30 في المئة، ظلّ الاتحاد الأوروبي وحده يمثل 42 في المئة من تجارة البلاد في العام الماضي، مقارنة بـ6 في المئة فقط مع الصين.


مشوار «العضوية» الذي لم يكتمل
تقدّمت تركيا، للمرة الأولى، بطلب عضوية إلى «اللجنة الأوروبية الاقتصادية»، والتي سُمّيت في ما بعد بـ«الاتحاد أوروبية»، في تموز/ يوليو 1959، بعد قيام اليونان بخطوة مشابهة في العام ذاته، ثمّ وقعت «اتفاق أنقرة» في عام 1963، وتقدّمت بعد ذلك للعضوية الشاملة في عام 1987. قُبلت تركيا رسمياً كمرشحة للاتحاد الأوروبي في عام 1999، وبدأت المفاوضات في هذا الشأن عام 2005. أعضاء الاتحاد وافقوا خلال الأعوام الأخيرة على تسريع محادثات العضوية من أجل إقناع تركيا بإيقاف تدفق موجات الهجرة إلى أوروبا، لكن حظوظ تركيا في الانضمام تضاءلت أكثر من أي وقت مضى بعد فشل محاولة الانقلاب في تموز/ يوليو 2016، والتي جعلت القادة الأوروبيين يسعّرون انتقاداتهم لـ«انتهاكات تركيا للحريات الأساسية». في موازاة ذلك، أعلن أردوغان أنه سيوافق على إعادة العمل بعقوبة الإعدام، والتي كانت قد توقفت في تركيا في عام 2004، عندما سعت أنقرة للدخول إلى الاتحاد الأوروبي.
(الأخبار)