تحوّلت اليابان، بعد استسلامها نهاية الحرب الباردة، إلى مستعمرة عسكرية أميركية، ومقرّ دائم للأسطول الأميركي السابع، أكبر أساطيل الولايات المتحدة على الإطلاق. وقد فرض المحتلّون، منذ ذلك الحين، دستور البلاد، وأعادوا تنظيم ثقافتها ونظمها الاجتماعية والسياسية والثقافية، بما يدمجها بالمنظومة الرأسمالية المعولمة التي تهيمن عليها واشنطن، وأحكموا قيوداً عليها في شأن إدارة تجارتها العالمية (الدولارات التي تحصل عليها من التصدير يعاد استثمارها في سندات الدين الأميركي العديمة القيمة فعلياً)، وسياستها الخارجية والأمنية. في الإطار الأمني تحديداً، وعلى الرغم من أن قوة دفاع اليابان تُعدّ ثامن أقوى جيش في العالم، فإن الأميركيين دمجوا تلك القوة بنيوياً بالمنظومة العسكرية التي يديرونها عبر العالم، وحدّدوا بدقة أعداد منسوبيها ونوعية تسلحهم، وتولّوا تدريب وتصعيد ضباط موالين لهم إلى المناصب القيادية العليا فيها، فضلاً عن تقييد عقيدة القوة القتالية في الدستور بما يخدم ديمومة الهيمنة الأميركية على ذلك البلد. استمرت تلك السياسة لأربعة عقود من دون تغيير يذكر، لكنها تسببت، بعد فورة تصنيع وتصدير للمواد والأجهزة الاستهلاكية - فتح لها الأميركيون أسواق العالم الرأسمالي على مصراعيها خلال السبعينيات والثمانينيات –، بتحوّل الاقتصاد الياباني إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم. تولّى الإمبراطور أكيهوتو الحالي منصبه عام 1989، أي في ذروة المدّ الاقتصادي لليابان التي باتت تسوّقها وسائل الإعلام الغربي أنموذجاً للمعجزات الخوارق للنظام الرأسمالي في دول ذات ثقافة شرقية محافظة. لكن تلك الفورة المصطنعة ما لبثت أن بدأت بالخفوت بداية التسعينيات، لتسقط اليابان في مناخ ركود اقتصادي وضعف في النمو لا يزال مستمراً إلى اليوم. ولذا، فإن أكيهوتو (85 عاماً)، وهو يتنازل عن عرشه لابنه ناروهيتو (59 عاماً)، سيُذكر في التاريخ بوصفه امبراطور الجمود الاقتصادي. بالطبع، فإن منصب امبراطور اليابان رمز شكلي محض وجد الأميركيون أن من مصلحتهم الحفاظ عليه، ومصاعب الاقتصاد الياباني لم تكن تحديداً من صنع يديه، بل هي نتاج تراكمي للسياسات الرأسمالية الطابع التي فرضها الأميركيون على اليابان، لا سيما لجهة كسر ثقافة التوظيف مدى الحياة لمصلحة العقود المؤقتة، وحتى العمل بالقطعة. تلك السياسة ضربت كل إحساس بالأمان عند أغلبية الشعب الياباني، وهو ما انعكس تدريجياً في صورة عزوف حادّ لدى جيل الشباب عن الزواج أو الإنجاب، وتقلّص في الإنفاق الاستهلاكي لمصلحة الادخار، ودخول في مرحلة من انكماش السكان.
عصر الإمبراطور ناروهيتو، الذي تم تصفير نظام التأريخ الياباني من أجله لتبدأ السنة الأولى من العيش في عهده منذ أيار/ مايو الماضي، لا يبدو أنه سيكون مجرد نسخة من عهد أبيه. ليس الأمر متعلّقاً بشخصيته المرهفة أو بتعليمه الغربي أو حتى بإمكانية تأثيره على توجهات بلاده أو تحدّي خضوعها التام للأميركيين. المسألة تتعلّق أساساً بتغييرات نوعية في طبيعة الدور الذي تريد واشنطن لليابان أن تلعبه في إطار حربها الاستراتيجية ضد العملاق الصيني، تقضي بإضافة العنجهية القومية اليابانية إلى سياج النار الممتد من قواعدها في كوريا الجنوبية، وأسطولها الاستفزازي في بحر الصين، مروراً بالأزمات المفتعلة في هونغ كونغ، ومشاكل أقلية الإيغور المسلمة جنوب الصين، وانتهاءً بالاستعادة المفاجئة لعقدة كشمير.
التحولات التي أطلقها الأميركيون لا تثير قلق الصين فحسب بل كوريا الجنوبية أيضاً


الإمبراطور ناروهيتو سيكون مجرد غطاء خارجي لتنفيذ هذا التوجه الأميركي، والذي عُهد به إلى رجل البلاد القوي، شينزو آبي (يمين محافظ). آبي يروّج، منذ توليه المنصب في 2012، لحزمة سياسات أطلق عليها تسمية «اليابان الجميلة»، تستهدف في مجملها نفخ الروح في جثة الإمبراطورية اليابانية التي رحلت منذ عقود. رئيس الوزراء لا تُعرف عنه الشجاعة أو التمتع بقدرات سياسية أو فكرية استثنائية، وهو فشل فشلاً ذريعاً إلى الآن في محاولته إخراج البلاد من ركودها الاقتصادي المزمن. لكنه ينحدر من بيوتات سياسية وعسكرية عريقة في اليابان، ومعروف بولائه الشديد للأميركي، وهذه مؤهلات كافية في نظر واشنطن ليكون الرجل المناسب في المكان المناسب. تضمنت سياسات آبي المتأمركة تمرير مشروع قرار يمنح السلطات صلاحيات غير محدودة لاعتبار إفشاء أيّ معلومات تقررها أسراراً للدولة «خيانة عظمى». وهكذا، لم تعد تتوافر للمواطنين معلومات كافية عن طريقة عمل الحكومة، بينما لن يجرؤ أي ياباني على لعب دور أسانج أو سنودن. وتالياً، هو وضع أحد أتباعه المخلصين على رأس الـ«NHK»، أهم شبكة تلفزيونات وإعلام في البلاد، وقد تولى الأخير عملية ممنهجة للتخلص من عدد من أهم الصحافيين والمذيعين، من الذين يمكن أن ينتقدوا آبي يوماً. وفي 2017، مرّر قانوناً مثيراً للجدل في شأن «محاربة الإرهاب»، يصم كل شكل من أشكال المقاومة الشعبية بـ«العمل الإرهابي»، بحجة حماية أمن البلاد في الدورة الأولمبية المقبلة 2020، والتي تنظمها طوكيو.
مجموع هذه الإجراءات كان بمثابة إعداد لإطلاق دستور جديد للبلاد، برعاية أميركية، يمنح آبي السلطة لبناء جيش ياباني لا مجرد قوة دفاع كما هو قائم حالياً، ويقلّص حقوق الأفراد لمصلحة حفظ النظام العام، ويكرّس التفاف الأمة حول الإمبراطور. وبالطبع، فإن هذه الدسترة الجديدة ليست إلا مسألة رمزية؛ إذ إن التوجهات الأميركية الجديدة، سواء لناحية طبيعة التسليح النوعي والتدريب الهجومي الذي شرعت واشنطن في تقديمه لقوة الدفاع، أم التعديلات الممنهجة في برامج التعليم والتثقيف والتنظيم السياسي، تشير، وبشكل متزايد، إلى أن العمل يتم على قدم وساق على «تطوير» التموضع الاستراتيجي لليابان. وينخرط اليوم أكثر من 60% من البرلمانيين اليابانيين وغالبية الشخصيات الفاعلة في المؤسسة الدينية الرسمية (الشنتو) في «منظمة المؤتمر الياباني»، وهي تنظيم يميني قومي متطرف يدعو إلى إعادة بناء مجد الإمبراطورية البائدة، وإحياء تقاليد المجتمع الياباني الشوفينية والشديدة المحافظة والذكورية، كما في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية. وقد حقق المؤتمر أقوى نجاحاته إلى الآن في مجال المناهج العامة للمدارس، فأزيلت الإشارات التي تتحدث عن حقوق الإنسان، وكذلك عن ضحايا الاستعمار الياباني في الصين وكوريا.
هذه التحولات التي أطلقها الأميركيون لا تثير قلق الصين فحسب، بل كوريا الجنوبية أيضاً، وهي حليف آخر مهم للولايات المتحدة في الإقليم، فضلاً بالطبع عن كوريا الشمالية التي تدرك تماماً خطورة يابان مسلحة وعدائية في جعبة الأميركي الذي لن يكون محتاجاً في حال نشوء نزاعات في المنطقة إلى التضحية بجنود أميركيين، بل سيكتفي بإرسال القوات اليابانية الموثوقة لتنفيذ المهمات عنه. وقد بدأت هذه المخاوف بالظهور علناً بعدما أعلنت سيول، الأسبوع الماضي، إنهاء العمل بمعاهدة تبادل المعلومات الاستخبارية مع اليابان، رداً على قرار طوكيو إلغاء امتيازات التفضيل التجاري الممنوحة لكوريا الجنوبية، وفرضها قيوداً إجرائية على تصدير مواد كيميائية إليها، وكذلك على استيراد الصناعات الكورية. ويترافق هذا التصعيد بين الحكومتين مع ارتفاع غير مسبوق في منسوب العداء على مستوى الشارع؛ إذ ينفذ الكوريون حملة مقاطعة عامة للمنتجات اليابانية الاستهلاكية والثقافية، ويرتدي العديد من الشبان قمصاناً كتب عليها «إن لم أستطع القتال من أجل كوريا، فسألتزم بالمقاطعة»، ويتجنّب الرياضيون والنجوم والمثقفون من البلدين زيارة البلد الآخر. الأميركيون، الذين رغم كل شيء يمتلكون مفاتيح التأثير في كلا البلدين، لن يسمحوا بخروج الأمور عن السيطرة، وهم سيتدخلون حتماً في نهاية الأمر لتوحيد جهود الجميع في مواجهة العدو المشترك: الصين.