لم يعد خافياً أن إسرائيل تشعر بالقلق من المساعي الأوروبية للتوصل إلى صيغة حلّ بين واشنطن وطهران. وفي المقابل، ترى فرنسا ومعها الدول الرئيسة في الاتحاد الأوروبي أن انهيار الاتفاق النووي هو انهيار لإنجازها الدولي الوحيد في العقود الأخيرة، وأن عودة إيران إلى تطوير برنامجها النووي تشكل تهديداً مباشراً لأمنها القومي. أضف إلى ذلك أن احتدام الصراع مع الولايات المتحدة، أو أي مواجهة عسكرية واسعة مع إسرائيل، ستنطوي على تداعيات خطيرة جداً على المصالح الأوروبية وعلى قلب أوروبا نفسها.
إسرائيل تشعر بالقلق من المساعي الأوروبية للتوصل إلى صيغة حل
مشكلة تل أبيب بدأت بالظهور عندما فوجئت، مع واشنطن، بصمود إيران في مقابل حملة «الضغوط القصوى» التي تتعرض لها. فلا انهار الاقتصاد الإيراني على رغم الصعوبات الكبيرة التي يواجهها، ولا انهار النظام الإسلامي في طهران بفعل حراك شعبي داخلي كما كان الرهان الأميركي ــــ الإسرائيلي، ولا قدم تنازلات لا في الشكل ولا في المضمون، لا في القضية النووية ولا الصاروخية ولا الإقليمية، فيما أظهرت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تردداً في مواجهة التوثب الإيراني.
أدركت تل أبيب، أمام هذا الواقع المستجد والمغاير كلياً لما كانت تراهن عليه وتسعى إليه، أنها باتت تواجه أكثر من تحدّ في أكثر من مسار. فهي تواجه تحدياً لا يُستهان به نتيجة اكتفاء ترامب بالسقف الذي يلتزمه في مواجهة إيران. وتواجه تحدي الخيار البديل في مواجهة استمرار تخفيف إيران التزاماتها بالقيود التي فرضها الاتفاق النووي، وترى في ذلك تهديداً لأمنها القومي إن لم تبادر القوى الدولية إلى كبح هذا المسار. كما تواجه تحدياً خطيراً جداً في حال آلت التطورات إلى نزاع عسكري ستدفع فيه أثماناً قاسية من أمنها. أيضاً، تواجه تل أبيب تحدي الوساطة الفرنسية، المتمثل في أن الأخيرة تتحرك مدفوعة بالضغط الإيراني «النووي»، وهو ما سينعكس بالضرورة على مضمون أي مباحثات، فضلاً عن أي اتفاق مفترض، ولو نظرياً. مع ذلك، لأكثر من سبب، لا تستطيع إسرائيل أن تروج للخيارات التي تأملها بشكل مباشر، كونها تصطدم بمصالح الدول الحليفة لها، وستبدو هي بالدعوة إليها كما لو أنها تسعى إلى توريط الحلفاء في صراعات وحروب بالوكالة عنها. من هنا، كان رفضها للمفاوضات انطلاقاً من أن الآن ليس الوقت الملائم لها، وهو ما يعني أن إيران ليست مستعدة بعد لتقديم التنازلات في أي مفاوضات مفترضة، كونها لا تزال تتمسك بثوابتها المتصلة بالعناوين الخلافية كافة.
البديل الذي تقدمه تل أبيب من المفاوضات هو استمرار الضغوط، كما عبر عن ذلك نتنياهو. ومن الواضح أن إسرائيل تراهن على أن يؤدي تفاقم هذه الضغوط إلى إحدى النتائج الآتية: إما إلى ردة فعل إيرانية (تطوير برنامجها النووي) أو عسكرية، بما يؤدي بدوره إلى رد فعل أميركي ــــ دولي يعيد إنتاج خريطة موازين قوى جديدة، على أمل أن ينعكس هذا في أي مفاوضات لاحقة. أو أن لا تتجاوز إيران سقفاً محدداً في برنامجها النووي، وهو ما سيُضعف موقفها في أي ترتيبات لاحقة. وتراهن تل أبيب أيضاً على أن يؤدي تفاقم الضغوط إلى تفاقم مفاعيلها، بما من شأنه إحداث تغيير جذري في الواقع الإيراني. وفي كل الأحوال، يبقى عدم رفع العقوبات عن إيران مطلباً إسرائيلياً قائماً بذاته في كل المراحل.
مع ذلك، من الواضح أن الحقيقة التي تفسر رهانات تل أبيب وخياراتها هي أنها لم تتم بلورتها انطلاقاً من كونها تجسد طموحاتها وآمالها، وإنما نتيجة ضيق الخيارات في ضوء فشل الرهانات الاستراتيجية الأصيلة. والحقيقة الثانية أن ما يُفسر نجاح إيران ومحور المقاومة في مفاجأة المعسكر الأميركي ــــ الإسرائيلي، في العديد من مراحل الصراع، هو وجود هوة عميقة بين التصورات التي يبني هذا المعسكر على أساسها مخططاته ورهاناته، وبين الواقع كما هو فعلياً. ويعني ذلك أيضاً، أن مسلسل المفاجآت سيتواصل في ضوء استمرار هذه الهوّة.