180 يوماً من المهل الإيرانية الثلاث خفّضت خلالها الجمهورية الاسلامية في إيران التزاماتها التي تعهّدت بتنفيذها في الاتفاق النووي. الاتفاق نص على خفض الأنشطة النووية وتجميد بعضها لمدد تصل أحياناً إلى خمسة عشر عاماً مقابل رفع العقوبات المفروضة على طهران. التحرك الإيراني بدأ منذ إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عزمه على الخروج من الاتفاق خلال حملته الرئاسية قبل وصوله إلى البيت الأبيض. مراكز القرار في طهران وضعت سيناريوات لخروج واشنطن من الاتفاق، مع وجود توقعات بأن يكون الموقف الأوروبي أكثر صلابة في حال انسحاب واشنطن، لكن كلام قائد الثورة، السيد على الخامنئي، عن عدم الثقة بالأوروبيين، خاصة البريطانيين والفرنسيين، فتح باب المواجهة المحتومة.تم إعداد مشاريع استباقية في مجلس الشورى لمواجهة الخرق الأميركي، واجتمعت لجان الأمن القومي لوضع خطط لمواجهة «الاعتداء» الاقتصادي - السياسي المحتمل، في حين كان العسكر على جاهزيته كالعادة، كونه في حالة حرب مفتوحة. تم إعداد سيناريوات المواجهة ووُضعت الخطط بإتقان، مع اقتناع الجميع بأن الخلافات الداخلية قد ترفع أو تخفض مستوى شعبية التيارات الحاكمة من إصلاحيين ومحافظين محلياً، لكن نقل هذا الخلاف خارج الحدود يعني الهزيمة الحتمية إقليمياً ودولياً.
الخطوات الثلاث، التي نُفّذت حتى اليوم، كانت مقررة سلفاً، والقرار بتنفيذها اتُخذ على أعلى المستويات وبإجماع تام ومن دون أي معارضة: لا انسحاب كاملاً من الاتفاق كي لا تتحمل إيران مسؤولية فشله، بل محاولة للرد بالمثل على مساعي تفريغه من محتواه، وبالتالي بقاؤه حبراً على ورق. أما لو أراد الأوروبيون الانخراط علناً في مواجهة إيران، بما يعنيه ذلك من حتمية الاصطفاف العسكري وإشعال نار في المنطقة، فستصل ألسنة لهبها إلى أماكن لا تريدها الترويكا الأوروبية، كما تحذر منها روسيا والصين، في حين تتهيّب واشنطن خوض غمارها، وعلى هذا، تكون إيران لا تريدها لكن لا تخشاها.
الخطوة الأولى كانت كسر حاجز مخزون اليورانيوم وتخطيه 300 كلغ، إضافة إلى تحرير مخزون المياه الثقيلة. أدارت إيران هذه الخطوة بذكاء، فأطلعت «الوكالة الذرية للطاقة الذرية» على تفاصيل عملها تحت أعين المراقبين وكاميرات المراقبة، وبالتالي تجنّبت الدخول في ما يسمى «أنشطة سرية»، بل أدت الأمر علناً. جاءت الخطوة الثانية برفع مستوى التخصيب بأقل من 1%، ولم تتجاوز حاجز 5%، وبالتالي لا استخدام فعلياً للمواد المخصبة إلا في المجال الطبي وأيضاً تحت إشراف «الوكالة الدولية».
باتت طهران تعرف أين وكيف ترد في الحرب الاقتصادية


هاتان الخطوتان يمكن وصفهما بالتحرك التكتيكي، فيما تُظهر الثالثة دخول التحركات الاستراتيجية حيّز التنفيذ، إذ إن إعلان استئناف الأبحاث على أجهزة الطرد المركزي «IR6» يعني أن طهران انتقلت إلى دراسة أجهزة بقدرة عشرة أضعاف الأجهزة الحالية. ومن جهة أخرى، الخطوتان الأولى والثانية يمكن إيقافهما في حال التقدم في المفاوضات مع الأوروبيين، خاصة أن سياسة الضغط الآن انتقلت من الملعب الإيراني إلى الجانب الغربي، فإيران قادرة على إيقاف وخفض المخزون من اليورانيوم والمياه الثقيلة في أيام معدودة، لكن استئناف العمل الفعلي على تطوير الأجهزة وضخ الغاز فيها يعني خطوة كبيرة باتجاه مواكبة الصناعة النووية وعدم التأخر في تطويرها، ما يشي بأن ثمة فرصة فتحت للأبحاث وانطلاقها، وأن طهران لن تتوقف عن هذه الأبحاث في حال طلب منها ذلك، لأنها سابقاً لم تكن تجري هذه الاختبارات، وكان من المقرر أن تتوقف ما بين 8 إلى 15 سنة. لذلك، المشروع، حتى في حال الاتفاق، لن يتوقف، فضلاً عن معرفة الإيرانيين بأنه لا حلّ قريباً لهذه القضية، أقلّه خلال وجود ترامب في البيت الأبيض.
الموضوع الأبرز الآن هو ماهية الخطوات المستقبلية ومهلة الشهرين الإضافيين التي منحت للأوروبيين؛ فإيران ما زالت لديها أوراق لتخرجها. وبقراءة بسيطة للاتفاق النووي، يمكن أن نلاحظ أن الجمهورية الإسلامية تمتلك خيارات من شأنها أن تحرج الجانب الأوروبي وتعيد خلط الأوراق، خاصة أنها متمسكة بسلمية البرنامج النووي، باعتراف «الوكالة الدولية»، وبالتالي لم يدخل مشروعها مرحلة الغموض، فالخيارات مفتوحة ومباحة، ومن ضمنها:
1. رفع عدد أجهزة الطرد المركزي إلى أكثر من 6000 في منشأة نطنز.
2 استبدال أجهزة «IR1» بأجهزة من الجيل الرابع «IR4».
3 الانسحاب من البروتوكول الإضافي الذي يسمح بزيارة مفاجئة إلى المنشآت النووية، وهذا ممكن بقرار من «مجلس الشورى».
وتبقى خطوتان تعتبران عودة إلى النقطة الصفر وهما:
1. إعادة تشغيل مفاعل «أراك» للمياه الثقيلة بالاستخدامات السابقة نفسها، وإعادة تصميم القالب القديم للمفاعل الذي كان يشكل عقدة في التفاوض وهدفاً أميركياً، إضافة إلى تشغيل منشأة «فوردو» لتخصيب اليورانيوم وتجهيزها بأجهزة طرد مركزي، ما يعتبر ضربة كبيرة لواشنطن التي قدمت الكثير من التنازلات لتعليق العمل بهذه المنشأة التي تُعدّ أهم مركز تخصيب بعد «نطنز». وإيران، بسبب عدم الحاجة إلى تشغيلها بوجود «نطنز» أوقفت العمل بها، وبالتالي العودة إلى تشغيلها مع «أراك» ستشكل عودة إلى 2012 حينما أنهى كبير المفاوضين النوويين، سعيد جليلي، مفاوضاته مع السداسية الدولية.
في جميع الأحوال، سيفتح الانتقال الإيراني من التكتيك إلى الاستراتيجيا احتمالات التصعيد ومن ثم محاولات احتوائه، مع معرفة الجميع بأن التصادم مع إيران عسكرياً سيشعل حرباً، في حين أن طهران باتت تعرف أين وكيف ترد في الحرب الاقتصادية.