لم يطرح المتنافسون الإسرائيليون في انتخابات «الكنيست الـ22» برامج سياسية يمكن أن يُتوقع بموجبها تغيير ما وفقاً لهذا البرنامج أو ذاك، كما كان يحدث في تاريخ عمليات التصويت. النتيجة الوازنة في هذه الانتخابات قد تكون وحيدة: هل يبقى بنيامين نتنياهو رئيساً للحكومة، أم يتحول إلى رئيس سابق؟ وفي انتظار الحصيلة النهائية والرسمية بعد أيام، وإن كان للعيّنات الانتخابية التي عرضتها قنوات التلفزة إشارات قوية دالة عليها، من المفيد الإشارة إلى أنه قبل هذا الاستحقاق وخلاله وبعده، ثمة ثوابت في إسرائيل الحالية يتعذر تغييرها مهما كانت النتيجة.أول تلك الثوابت وأهمها، أن إسرائيل تبلور خياراتها وقراراتها الأمنية، وتبعاً لها سياستها الخارجية، عبر المؤسسة الأمنية - العسكرية، التي تتولى تشخيص التهديد ومكانه ومستوياته والخيارات المتوافرة أو التي يجب أن تتوافر لمواجهته، فيما تعمل المؤسسة السياسية (صاحبة القرار النهائي من ناحية قانونية) على تبنّي ذلك التشخيص كما يرد إليها، وإصدار قراراتها النهائية على أساسه، بناءً على مروحة خيارات تعرضها عليها الأولى. لذلك، لن تطرأ تغييرات تُذكر على الخيارات الإسرائيلية المعتمَدة لمواجهة ساحات التهديد، سواء في ما يتعلق بالفعل الاستباقي أو الوقائي، ولو أن الانتخابات جاءت بالتوازي مع إعلان المسؤولين الإسرائيليين أن ثمة تغييراً في ترتيب التهديدات لجهة أن التهديد في الساحة اللبنانية بات في المرتبة الثانية بعد التهديد الوجودي الذي يمثله الملف النووي الإيراني، وقبل ما تسمّيه إسرائيل «التمركز الإيراني» في الساحة السورية.
لا يُنتظر تغيير في تعاطي إسرائيل مع الملفات الأمنية والخارجية


ثاني الثوابت المذكورة أن المشهد الانتخابي الإسرائيلي يتركّب في الظاهر من فسيفساء أحزاب وقوائم من يمين ووسط ويسار، وهو التقسيم التاريخي نفسه المبنيّ على التباين بين الكيانات السياسية في ما هو أفضل لإسرائيل وأمنها وتوسعها في المحيط الرافض لها. كان الخلاف فيما مضى بين تلك الكيانات على مستقبل المكتسبات الإقليمية والأراضي المحتلة نتيجة انتصارات إسرائيل على العرب في الحروب المتعاقبة: اليميني هو الذي يتشدد أكثر في التمسك بالأرض المحتلة، بل يريد المزيد منها طلباً للأمن، فيما يرى اليساري إمكان التنازل عن جزء من الأرض تحقيقاً لتسوية ما مع الجانب الآخر تؤمّن لإسرائيل أمنها. ومع سقوط العملية السياسية التي سعى إليها اليسار، باتت الرؤى والاستراتيجيات اليمينية هي السائدة، بل باتت تسمية اليساري تهمة يعمل الجميع على التنصل منها. وعليه، فإن الخلاف الفعلي في هذه الانتخابات لا يستند من قريب أو بعيد إلى التقسيم التقليدي بين اليمين واليسار؛ إذ لا فروقات بين معظم الأحزاب التي تخوض السباق، في ظلّ تراجع الاستراتيجية اليسارية لتحقيق أمن إسرائيل عبر التسويات، وتقدّم استراتيجية تحقيق الأمن عبر الاحتفاظ بالأرض المحتلة.
استناداً إلى ذلك، يتعذر إلا تسامحاً فرز الأحزاب الإسرائيلية بين يمين ويسار. ففي الواقع، ثمة أحزاب يمينية تظهر يمينيّتها وعنصريتها بوضوح، فيما الأحزاب من الوسط واليسار تمتنع عن تظهير يمينيّتها قدر الإمكان، وتلطّف عنصريتها ما أمكن أيضاً. والخلاصة، أن اليمين الفظّ نافس اليمين الملطّف في هذه الانتخابات، ومن ثمّ فاز اليمين على اليمين، مهما كانت النتائج. ومن هنا، يمكن تفسير غياب البرامج السياسية لدى الأحزاب والتكتلات على اختلافها، إذ لا خلاف على استراتيجية الاحتفاظ بالأرض المحتلة بين معظم المتنافسين، بل إن غياب الخلاف وصل إلى حدّ اعتبار المرشحين أن لا ضرورة لإثارة مسألة الاحتلال نفسها، بل وتحاشيهم المطالبة بالمفاوضات والتسوية مع الفلسطينيين التي تعني سلفاً حكماً بالسقوط. وعلى ذلك، فانتخابات أيلول/ سبتمبر شخصية بامتياز، وهي بلا برامج، وقائمة بين معسكرين اثنين: معسكر مؤيد لنتنياهو، وآخر معارض له.
بالنتيجة، لا تغيير في سياسات إسرائيل وخياراتها تجاه الملفات والتحدّيات الأمنية، وكذلك في ما يرتبط بالسياسة الخارجية التي تكون محكومة بالعامل الأمني، سواء عاد نتنياهو إلى رئاسة الوزراء ومكّن نفسه من التملص من السجن على خلفية اتهامه بالرشى والفساد، أو تمكن بني غانتس من الاستحصال على التكليف ثم تشكيل الحكومة. إسرائيل ما بعد الانتخابات قد تبدّل لون الثوب الذي ترتديه، لكنها تبقى هي نفسها الكيان القائم على الاحتلال واغتصاب الحقوق والسيادات والسعي الدائم إلى فرض إرادة الاحتلال والتوسع والاستيطان، وهي سمة إسرائيلية ثابتة، سواء كانت الغلبة يمينية أو يسارية أو غيرهما.