يغيب الإجماع عن توصيف المرحلة التاريخية الجديدة التي يشهدها العالم بين المهتمّين بالعلاقات الدولية. غالبية هؤلاء يتّفقون على أن الهيمنة الغربية تتراجع باستمرار، على الرغم من اختلافهم على ما سيفضي إليه هذا التراجع من تحوّلات تقود إلى عالم «متعدّد الأقطاب»، أو نظام دولي «لا قطبي»، أو فوضى عالمية شاملة. الواضح حتى الآن هو أن التطورات التي برزت في السنوات الأخيرة، وآخرها الأزمة الإيرانية - الأميركية في الخليج وكشف روسيا والصين عن تعاظم قدراتهما العسكرية، تؤكد جميعها أن ضمور هذه الهيمنة يتسارع. وقبل أن ينتفض البعض للتذكير بأن الغرب احتلّ موقعاً مركزياً في النظام الدولي الآفل بفضل عبقرية نظمه السياسية والاقتصادية وحيويتها، ودورها في إطلاق العنان لطاقات شعوبه المُرفّهة في الإبداع الفكري والعلمي، لا بدّ من التذكير بأن هيمنته تأسّست على تفوّقه العسكري وفي تقنيات القتل الواسع النطاق.الصعود الاقتصادي الحثيث للقوى غير الغربية شكّل تحدّياً جدياً لتلك الهيمنة في العقدين الماضيين، لكن شروع بعضها في تطوير قدراته العسكرية، ردّاً على العدوانية الغربية حياله، بات اليوم يخلخل مرتكزاتها. تضافر جملة عوامل، سياسية واقتصادية وعلمية - تكنولوجية، بنيوية وظرفية، سمح بذلك التحول الذي تزداد وتيرته في موازين القوى الدولية، مع ما يؤدي إليه من تسارع في التاريخ العالمي، بعد أن ظنّ معظم النخب الغربية أن «الثورة في الشؤون العسكرية» في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وأوائل تسعينياته ستكرّس نهاية الغرب، وسطوته الأبدية على «الآخرين»، أي غالبية شعوب العالم غير البيضاء. هذا التحوّل هو الذي يفسر أيضاً الإرباك الأميركي الشديد في التعامل مع العديد من الملفات الدولية، كالملف السوري مثلاً، الذي انحدر في فترة زمنية وجيزة نسبياً إلى مصافّ الملفات الثانوية التي تريد واشنطن التخلص منها للتركيز على تناقضها الرئيس مع منافسَيها الدوليين أي روسيا والصين.

«كسوف التفوّق التكنولوجي - العسكري الغربي»
حرب تدمير العراق بذريعة تحرير الكويت عام 1991 كانت أول ترجمة ميدانية للثورة في الشؤون العسكرية، وما نجم عنها من تفوّق تكنولوجي أميركي نوعي. الغاية من هذه الحرب الاستعراضية آنذاك، تماماً كما استخدام القنبلة النووية في هيروشيما وناغازاكي خلال الحرب العالمية الثانية، هي أن تكون لحظة تأسيسية مرعِبة لنظام دولي خاضع للسيطرة الأميركية. وقد أشارت دراسة أعدّتها مؤسسة «راند» عام 2011 إلى أن قيادة الجيش الصيني ذُهلت ممّا رأته خلال هذه الحرب، وهي شكّلت حافزاً حاسماً لتسريع عمليات تحديث آلتها العسكرية والسعي لامتلاك التكنولوجيا المتقدمة. انطبق الأمر نفسه، بحسب الدراسة، على القيادة العسكرية الروسية، على الرغم من قدراتها المحدودة على التعامل مع هذا التحدي نتيجة قلّة مواردها في ذلك الوقت. عدد من تقارير «البنتاغون» بدأ باستخدام مفهوم «السيطرة الدائمة» (Perpetual Preeminence)، اعتداداً بما تتيحه الثورة المذكورة من نقلة نوعية في مجالات كالصواريخ والذخائر الذكية والطائرات الشبحية وأنظمة المراقبة والاستطلاع والتجسّس وغيرها. واختارت الولايات المتحدة كعادتها خصماً أضعف منها بمرات لتكون بلاده ساحة اختبار لأسلحتها الجديدة. لكن الوقائع بعد عقدين ونيف أثبتت أن الميزات التي أمّنتها هذه الثورة محدودة زمنياً. هذا ما خلص إليه تقرير أعدّه مركز الدراسات الأمنية في سويسرا «اتجاهات استراتيجية 2019»، وبشكل خاص الفصل المعنوَن «كسوف التفوّق التكنولوجي - العسكري الغربي». الانتشار العالمي للأسلحة الموجهة، وأساساً للصواريخ العالية الدقة وللطائرات المسيّرة، يرتبط وفقاً للدراسة باتجاهات بنيوية ثقيلة على المستوى العالمي، أهمّها النمو الاقتصادي المطّرد لعدد من الدول غير الغربية، وفي مقدمتها الصين، وتغير أنماط الابتكار التكنولوجي. وكان المؤرخ بول كندي، مؤلف «صعود وانحدار القوى الكبرى»، قد لفت إلى أن «الازدهار الاقتصادي لا يقود دائماً وبشكل فوري إلى تنامٍ في القدرات العسكرية، لكن كل التغييرات الكبرى في موازين القوى العسكرية العالمية تلت تحوّلات في الموازين الإنتاجية بين البلدان».
التحوّل هو الذي يفسّر الإرباك الأميركي الشديد في التعامل مع العديد من الملفات الدولية


دولة كالصين، بنظر الفريق الذي أعدّ الدراسة، استطاعت، نتيجة لنموها الاقتصادي الهائل، أن تخصّص قسماً من مواردها للتحديث العسكري، وبرهنت عن كفاءة عالية في الاستفادة إلى أعلى الدرجات من جهود البحث والتطوير العلمي محلياً لامتلاك التكنولوجيا المتقدمة، و/ أو السعي المحموم للحصول عليها من الخارج عبر الاستثمار المباشر لشراء شركات أو أصول في شركات منتجة لها أو الاندماج مع هذه الشركات، وعبر التجسّس العلمي والتكنولوجي. ففي عام 2016 وحدها، بلغت الاستثمارات الصينية في شركات أميركية 44,2 مليار دولار. أما بالنسبة إلى أنماط الابتكار التكنولوجي، فقد شهدنا في العقد الأخير تبدلاً في الأدوار التي يلعبها كلّ من الدولة والقطاع الخاص في هذا المضمار. فبعد أن كانت الدولة خلال سبعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي انطلق فيها العمل في مشروع «الثورة في الشؤون العسكرية»، تتكفّل بأكثر من 50% من تمويل عمليات البحث والتطوير، تراجعت هذه النسبة إلى 25% عام 2018. وأصبحت الشركات الخاصة هي المموّل الأبرز في مجالات مرتبطة بتطور التكنولوجيا العسكرية، كتكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية وعلم الآليات المبرمجة والذكاء الاصطناعي. «البنتاغون» بات يتعاون مع شركة «غوغل» لإنتاج آليات مبرمجة ومسيّرات. قسم كبير من الشركات الرائدة في هذه المجالات موجود في الصين منذ زمن طويل بسبب المزايا المميزة التي وفرتها للمستثمرين الأجانب، ولا ريب في أن الأخيرة استفادت من ذلك الوجود لتطوير قدراتها بطريقة أو بأخرى. وتؤكد الدراسة أن التقدم الذي حققته الصين في مجال صواريخ جو - جو وصواريخ أرض - جو والصواريخ الباليستية والذخائر الموجّهة والطائرات والغواصات المسيّرة نتيجة لزيادة ميزانيتها الدفاعية بنسبة 750% مقارنة بتلك التي خصّصتها للدفاع عام 1996، يحرم الولايات المتحدة من أي قدرة على الدفاع عن تايوان بأكلاف مقبولة داخلياً في حال قررت الصين اجتياحها. تتجاهل الدراسة الشروط السياسية التي سهّلت تطوير القدرات العسكرية الصينية والروسية، على عكس وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي لم تنْسَها، وهي تورط الولايات المتحدة في حروب أفغانستان والعراق منذ عقدين، ما منعها من التركيز على التهديد الاستراتيجي الفعلي بالنسبة إليها.
لقد لجأت الصين وروسيا إلى الاستثمار المكثّف في تكنولوجيا الصواريخ والمسيّرات، الأقل كلفة من منظومات السلاح الأميركية الباهظة الأثمان، ولم تعد قيادتا البلدين تترددان في استعراض قدراتهما العسكرية المتعاظمة لإفهام الولايات المتحدة أنهما مستعدتان لمواجهة استراتيجية الاحتواء والحرب الهجينة التي تعتمدها ضدهما، وأن موازين القوى تتحول في غير مصلحتها. ولا شكّ في أن تعزيز الشراكة الروسية - الصينية كفيل بتسريع مثل هذا التحوّل، الذي يفتح كذلك نوافذ فرص كثيرة في مناطق مختلفة من العالم، ومنها منطقتنا، للخلاص من الهيمنة الأميركية.