منذ وصوله إلى الرئاسة، اصطدمت مساعي دونالد ترامب لتحسين العلاقات مع روسيا بمعارضة الدولة العميقة وأقطابها. كان باراك أوباما قد واجه موقفاً مشابهاً من الأطراف نفسها عندما حاول بدء التطبيع مع موسكو. توماس غراهام، المسؤول الأسبق لملف روسيا في «مجلس الأمن القومي» خلال عهد جورج بوش الابن، رأى (في مقالة في العدد الأخير من «فورين أفيرز») أن جميع الرؤساء الأميركيين منذ نهاية الحرب الباردة (بيل كلنتون وأوباما وبوش الابن) وعدوا كلّ في بداية رئاسته ببناء علاقات أفضل مع موسكو، لكن وعودهم «ذهبت أدراج الرياح». انطلقت معارضة تحسين العلاقات من مجموعة اعتبارات يتداخل فيها البعد الأيديولوجي الموروث من الحرب الباردة مع غطرسة القوة التي طبعت نظرة الولايات المتحدة إلى العالم وتعاملها معه. لكنها في السنوات الأخيرة باتت تستند إلى قراءة أكثر واقعية لموازين القوى الدولية المتحوّلة نتيجة تراجع القوة الأميركية والإنجازات التي حقّقتها روسيا في الميادين العسكرية والتكنولوجية وسياستها الخارجية. هي عادت «منافساً من المستوى نفسه» (Peer Competitor)، وفق أدبيات البنتاغون، وينبغي احتواؤه وتحجيمه. ليس سراً أن ترامب المهجوس بالتهديد الصيني وبضرورة التركيز عليه كأولوية غير مقتنع بهذه المقاربة، لكنه بدا معزولاً إلى حد ما خلال سنواته الثلاث في موقعه. الجديد اليوم أن أصواتاً أخرى، وبعضها قريب من مواقع في الدولة العميقة، باتت تشاطره القناعة بأهمية مراجعة السياسة حيال روسيا والعمل للتوصل إلى تفاهمات على قاعدة مصالح مشتركة في أكثر من ملف دولي.
الروس مستمرون في البحث عن حل دبلوماسي للتوترات

تجاهلت الولايات المتحدة لأكثر من عقد دعوات فلاديمير بوتين لها ولبقية دول الغرب للتعامل مع روسيا على قاعدة الندّية. وهو قد ذكر في أكثر من مناسبة أن هذا التجاهل بذاته مؤشر على النيات العدوانية تجاه بلاده، وهو بلا ريب ما يفسر إصراره على الاستعراض المستمر، كلما توفرت الفرصة، لآخر منتجات الصناعات العسكرية الروسية، لإقناع من ما زال الشك يراوده في أن روسيا عادت قوة دولية من الدرجة الأولى. لكن هذا الإصرار لم يتنافَ مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام إمكانية الحوار مع الولايات المتحدة للتوصل إلى تفاهمات وتوافقات تحول دون نمط جديد من المواجهة المحتدمة بينها وبين روسيا. تقول دارا ماسيكوت، الخبيرة في السياسة الدفاعية الروسية في «راند كوربوريشن»، في مقالة على موقع «وار اون ذو روكس»، إن عدم إشارة العقيدة العسكرية الروسية الجديدة التي ستُعلن عام 2020 إلى الولايات المتحدة على أنها تهديد عسكري، يعني أنه «مهما كانت الخلافات بين موسكو وواشنطن، فإن الروس مستمرون في البحث عن حل دبلوماسي للتوترات». ووفقاً لماسيكوت، ستتضمن العقيدة الجديدة تسعة تغييرات مقارنة بتلك التي أعلنت عام 2014، وهدفها إحداث «نقلة نوعية في القدرات العسكرية الروسية». هي تؤكد أن القادة الروس مقتنعون بأن الولايات المتحدة و«الناتو» يعتمدان بتزايد على العقوبات الاقتصادية والثورات الملوّنة، ويحاولان ترهيب موسكو بالتركيز عليها بوصفها عدواً لهما في التقارير الإستراتيجية الثلاثة التي صدرت عن الرئاسة الأميركية والبنتاغون بداية العام الماضي. وأهم التغييرات المشار إليها تتعلق بتركيز أكبر على اللجوء إلى أساليب غير عسكرية قبل المواجهات العسكرية وخلالها، وإلى استراتيجية دفاع نشطة و«مندمجة» لا تهمل محاولات الأعداء زعزعة الأمن الداخلي للبلاد، خلال وقوع المواجهة المباشرة واستراتيجية العمل العسكري المحدود، والأنموذج هو التدخل الروسي في سوريا، ومنح دور أكبر للشركات الأمنية والعسكرية الخاصة خلال الحروب، والتصدي للانسحاب الأميركي من معاهدات الحدّ من التسلح عبر تطوير أجيال جديدة من الصواريخ الباليستية، والاستثمار المكثّف في ميادين التكنولوجيا العسكرية الناشئة كالمسيرات والذكاء الاصطناعي. وعلى رغم تضمن نص العقيدة الجديدة نقداً غير مباشر للتقارير الأميركية الاستراتيجية التي تصنّف روسيا عدواً، فإنه لن يحدد واشنطن، وفق ماسيكوت، باعتبارها تهديداً عسكرياً. الالتفات إلى هذا الأمر ليس تفصيلاً وهو يعزز وجهة نظر أنصار مراجعة سياسة واشنطن الروسية وإبداء قدر أكبر من المرونة والاستعداد للتعاون والتوصل إلى تفاهمات مع موسكو.
لكن غراهام المذكور أكثر وضوحاً في مقاله، إذ يدعو إلى تغيير السياسة المتّبعة بعد الحرب الباردة تجاه روسيا والمرتكزة إلى اعتقاد مفاده أن باستطاعة الولايات المتحدة تغيير تعريف هذا البلد لمصالحه ولرؤيته الدولية وجعلهما أكثر انسجاماً مع تلك الأميركية. وبما أن غراهام من مؤيدي التركيز على أولوية التصدي للصعود الصيني والحؤول دون «ارتماء روسيا في أحضانه»، يوصي بالإقلاع عن التوجهات الاستفزازية تجاهها كالإصرار على توسيع «الناتو» شرقاً وصولاً إلى حدودها، وعلى إدخال أوكرانيا وجورجيا إليه، وبالموافقة على ضمّها جزيرة القرم مقابل قبول موسكو عودة إقليم دونباس إلى أوكرانيا. لكن الأهم إلى منطقتنا هو ما يقترحه المسؤول السابق من تعاطٍ أميركي مع التدخل الروسي في سوريا. هو يجزم أن «التحدي الأساس هناك، أي في الشرق الأوسط، هو إيران لا روسيا. عندما يتعلق الأمر بإيران، لروسيا مصالح متباينة لكن ليس بالضرورة متناقضة مع الولايات المتحدة... روسيا، كما الولايات المتحدة، لا تريد أن تهيمن إيران على الشرق الأوسط. موسكو تسعى لصياغة توازن جديد في المنطقة قد يختلف عن ذلك الذي تفضله واشنطن. يعمل الكرملين على تطوير علاقاته مع قوى إقليمية كمصر وإسرائيل والسعودية وتركيا وهي دول غير صديقة لإيران». ويضيف: «أولت روسيا اهتماماً خاصاً بإسرائيل وسمحت لها بقصف مواقع حزب الله وإيران في سوريا. إذا اعترفت الولايات المتحدة بالمصالح الأمنية المحدودة لروسيا في سوريا وتعاملت معها على أنها لاعب إقليمي، فإنها ستنجح على الأغلب في إقناعها بالتحقق من حقيقة سلوك ايران العدواني. إدارة ترامب تتحرك في هذا الاتجاه لكن الأمر يستحق جهوداً أكبر». وينصح غراهام الإدارة نفسها بالموافقة على تمديد «اتفاق نيو ستارت» للحد من الأسلحة الاستراتيجية الذي وُقّع عام 2010 وينتهي العمل به عام 2021، وببلورة معاهدات جديدة للتحكم بمنظومات السلاح المتطورة توقّع عليها القوى الدولية الكبرى الأخرى.
مساعي ترامب للتقارب مع روسيا تجري في ظل عودة تدريجية لسباق التسلح معها، وما يشهده العالم حتى الآن هو تصاعد للتنافس الاستراتيجي بينها والصين وبين الولايات المتحدة. ما تكشفه التحليلات المشار إليها هو أن وجهة نظر ترامب حول ضرورة اجتذاب روسيا للتفرغ للصين، التي بدت معزولة في أول عهده، بدأت في ضوء تسارع التحولات الدولية تكسب المؤيدين في أوساط النخب الفكرية والسياسية الأميركية.