لندن | تتجه دراما «بريكست» البريطانية إلى ذروة جديدة في 12 كانون الأول / ديسمبر، تاريخ توجّه الناخبين للإدلاء بأصواتهم في انتخابات عامّة مبكرة دعا إليها بوريس جونسون. وبخلاف كل الانتخابات السابقة، فإن كل الاحتمالات ستبقى قائمة حتى اللحظة الأخيرة، بما فيها إمكان فوز حكومة عمّالية بقيادة جيريمي كوربن. لكن المؤكد أن حسابات التصويت جميعها ستخضع أساساً للموقف بشأن «بريكست»، أكثر من أي برامج أو سياسات موعودة.لو وفى رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون بوعده، لكانت المملكة المتحدة، اليوم، تعيش أسبوعها الثاني بعد طلاقها من الاتحاد الأوروبي. لكن الرجل المعروف بتعنّته وتهوّره السياسيين ظنّ لوهلة أنه يمكن أن يُرغم مجلس العموم الحالي على ابتلاع سم «بريكست» بناءً على اتفاق هزيل، وذلك عبر ضغط المُهل الزمنية، متناسياً أن هذا المجلس يميل قلبه نحو رفض فكرة الخروج من الاتحاد، وأنّه على أبعد تقدير يمكن أن يمرّر نسخة بلا دسم، ودائماً بالاتفاق الودّي مع بروكسل. بناءً عليه، انتهت الأمور بمجلس العموم إلى أن فرض على الحكومة الطلب إلى المجلس الأوروبي تمديد مهلة 31 أكتوبر / تشرين الأول، لتُمدّد المهلة لغاية نهاية يناير/ كانون الثاني العام المقبل رغم التململ الفرنسي الظاهر.
كان يمكن لجونسون نظرياً الاستفادة من المهلة الممدّدة للتفاوض مع مجلس العموم، ومحاولة تمرير مشروع اتفاقه مع الاتحاد، لكنّه عمد، كما فعلت سلفه تيريزا ماي، إلى المراهنة بكل أوراقه على انتخابات عامة مبكرة. مقامرة يعتقد كثيرون في لندن بأنه سيندم عليها، بالنظر إلى التغييرات الملحوظة على نيات التصويت الانتخابي للمواطنين، والتي كانت قد أظهرت في انتخابات البرلمان الأوروبي، قبل أشهر قليلة، تراجعاً غير مسبوق في شعبيّة الأحزاب الكبرى، لا سيما حزب «المحافظين» الحاكم، الذي حصل على أقل من 10% من الأصوات في نتيجة غير مسبوقة. بوريس ــ كما يحلو للصحافة البريطانية أن تدعوه ــ مطّلع بطبيعة الحال على هذه التحولات، لكن فائض الثقة بالنفس الذي يشتهر به، دفعه في ما يبدو إلى ربط تلك الهزيمة النكراء بشخص رئيسة الوزراء تيريزا ماي، في حينها، وسياساتها المترددة، لا بموقف الجمهور البريطاني من الحزب عموماً. بناءً عليه، فإن نظريته في فتح بوابة الانتخابات المبكرة، مبنية على حسابات مفادها أن تصويت كانون الأول / ديسمبر المقبل، سيكون حصراً على «بريكست»، وليس بشأن أي مسألة أخرى، على اعتبار أنه بأصوات مؤيدي «بريكست» (52% من البريطانيين صوّتوا عام 2016 لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي) سيحظى بأغلبية في مجلس العموم، سواء لحزب «المحافظين» منفرداً أم بقيادة تحالف للأحزاب اليمينية (مع حزب «بريكست» بقيادة نايجل فاراج وأحزاب أخرى صغيرة). بالتالي، سيمكّنه ذلك من اكتساب شرعية شعبية لقيادة المملكة المتحدة في رحلتها بعيداً عن بروكسل ـ وضمناً باتجاه واشنطن ــ مع إمكانية احتفاظه بالمنصب التنفيذي الأهم في البلاد للسنوات الخمس المقبلة، تكون مريحة بالنسبة إليه وإلى فريقه، في تنفيذ أجندته السياسية والاقتصادية.
يبدو حزب «العمّال» الأقدر على استقطاب أصوات جيل الشباب الأكثر تسييساً


بالطبع، فإن نظرية جونسون مليئة بالثقوب، وإن لم تكن لناحية احتمال رجحان كفّة عدد المعارضين لـ«بريكست» ــ 60% من الناخبين وفق بعض الاستطلاعات وأكثر من 50% في معظمها ــ فلربما تكون كذلك لناحية وجود هموم مطلبية أخرى لا يمكن إهمالها على أجندة المواطن البريطاني، كالتعليم والعمل والتقديمات الاجتماعية والخدمات الصحية، أو حتى لناحية الأداء المتهوّر له شخصياً في المنصب. فقد كذب جونسون علناً أثناء الانتخابات الداخلية الأخيرة لحزب «المحافظين»، عندما أعلن رفضه «اللجوء إلى ترتيبات فوضوية مثل تعليق عمل البرلمان لأجل تمرير بريكست». وقال حينها: «دعونا نمرر هذا الأمر ــ يقصد بريكست ــ كدولة ديموقراطية فخورة». لكنّه ما إن استلم مفاتيح «10 داونينغ ستريت» ــ مقر رئاسة الوزراء في لندن ــ حتى سارع إلى إصدار قرار بتعليق البرلمان لخمسة أسابيع حاسمة، وذلك بعد أول عقبة واجهها في هذا المجلس، قبل أن يتظاهر مئات الآلاف احتجاجاً في الشوارع، ويحكم القضاء بعدم شرعية القرار، ويُلغي مفاعيله. كذلك، كذب بوريس، لاحقاً، بشأن موقفه من نقطة الحدود الخلفية بين الإيرلنديتين ــ الشمالية والجمهورية ــ إضافة إلى مبدأ المحافظة على حقوق العمّال والتشريعات البيئية بعد التحرّر من رقبة بروكسل. فضلاً عمّا تقدّم، فقد رئيس الحكومة البريطانية ثقة 21 نائباً في مجلس العموم ينتمون إلى حزبه، ومن بينهم قادة كبار من مستوى وزير الصحة مات هانكوك، الذي رأى مواقف جونسون السياسية عابقة بالنفاق. وبدا من الواضح، أيضاً، أن سياسات جونسون القاضية بدفع بريطانيا بعيداً عن البر الأوروبي اقتصادياً لمصلحة تشبيك أوثق مع الولايات المتحدة، لا تحظى بشعبية كبيرة، لاسيما أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتعرّض لإجراءات عزل في الكونغرس. فالبريطانيون في غالبيتهم قلقون من هذا التوجه، انطلاقاً من الخشية من فقدان امتيازات خدمة النظام الصحي ــ التي تقدّم خدماتها للمواطنين مجاناً أو برسوم رمزية ــ لمصلحة رأس المال الخاص الأميركي.
إضافة إلى ذلك، يبدو أن نظرية جونسون لا تأخذ في الحسبان تصاعد العداء لحكم لندن المركزي، بين سكان الأقاليم في اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية، والذين يسجّل المراقبون أنهم من المحتمل أن يصوّتوا لمصلحة الاستقلال عن المملكة المتحدة، والبقاء تحت مظلّة الاتحاد الاوروبي. ولا شك في أن مزاج هؤلاء سينعكس على طبيعة تصويتهم في 12 كانون الأول / ديسمبر، بينما سيدفعون باتجاه إيصال نواب معارضين لـ«بريكست» ولجونسون معاً.
في المقابل، يبدو حزب «العمّال» ــ أكبر أحزاب المعارضة ــ الأقدر على استقطاب أصوات جيل الشباب الأكثر تسييساً، على الرغم من الصراع الداخلي داخله بين اليسار الموالي للزعيم الحالي جيريمي كوربن واليمين الموالي لرئيس الوزراء الأسبق توني بلير. إضافة إلى ذلك، جمع الحزب تأييد غالبية المعارضين لـ«بريكست» من دون اتفاق أو بصيغة متسرّعة، فضلاً عن أن كوربن يتمتع بعلاقات دافئة مع الاستقلاليين في الأقاليم. ومن جهة أخرى، سيمثّل إيصال كوربن، على رأس تحالف يسار وسط، إلى «10 داونينغ ستريت» أخباراً ممتازة لبرلين وباريس، اللتين ترغبان بإدارة مسألة «بريكست» مع لندن بتروٍّ بعيداً عن شوفينية «المحافظين».
بالتالي، فإن الانتخابات الحاسمة التي ستجري خلال أقل من شهر، لن تُقرر مستقبل رئيس الوزراء العتيد فقط، بل مستقبل جريمي كوربن أيضاً، الذي بلغ السبعين، والذي من المرجّح أن يتنحّى عن قيادة الحزب إن خسر المنازلة. والأهم من ذلك كلّه، فإنها ستقرّر مصير المملكة المتحدة لسنوات، ولربما لعقود مقبلة.