ستيباناكيرد | لا يغفر الأرمن للحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى كيف رسموا حدود الخرائط الجديدة في القوقاز. فالغرب المنتصر، وخصوصاً فرنسا وبريطانيا، تخلّى عن خريطة سيفر لعام 1920. كان يمكن بموجبها أن تظهر أرمينيا الغربية المستقلة، وكان يمكن أن يكون جبل أرارات من ضمن حدود هذه الأرمينيا التي ظهرت لاحقاً في مكان آخر ضمن الاتحاد السوفياتي. لذا لا يجد الأرمن في أرمينيا وفي كل العالم بدّاً من الاكتفاء بالنظر إلى رمزهم الأول من وراء الحدود على بعد بضعة كيلومترات منها، والتقاط الصور بحسرة واضحة. لكن ما يشفع للأرمن أن الجبل / الرمز يظلّل عاصمتهم يريفان بهيبة وسطوع، ولو كان يبعد عنها أكثر من 60 كلم، تماماً كما يطلّ قاسيون على دمشق وكما يطلّ صنين على بيروت.ربما لو لم ينسحب ثوار البلشفية من اتفاقية سايكس - بيكو ويكشفوا أسرارها، لكان أرارات حتماً داخل الجغرافيا الأرمنية. إلى هذا الحدّ تعيش أرمينيا والأرمن صدام الهوية والهوى. الهوية، التي يحرص كلّ الأرمن على حمايتها، تجد نفسها في الغرب أميركية الهوى، فيما في الشرق مرتبطة أكثر بالضرورات الجيوستراتيجية، وبالتالي التظلّل بروسيا شيوعية كانت أو بوتينية في مواجهة «العدو» التاريخي تركيا.
بين حدّي تركيا وأذربيجان، يعيش الأرمن تاريخهم. النزعة القومية هي التي توحّد الأذريين والأتراك. أما النزعة المذهبية، فتبدو خارج الصراع مع وقوف إيران الشيعية بحزم إلى جانب أرمينيا وإلى جانب إقليم «أرتساخ - ناغورني قره باغ».
على رغم خصوصية الهوية، فإن يريفان سوفياتية الروح، بعمارتها الصلبة الجميلة وطرقاتها الواسعة النظيفة وحدائقها الخضراء الغنّاء. لا يختلف اثنان على أن يريفان متحف طبيعي، وساحاتها الرئيسة ملتقى الصروح الثقافية والفنية التي تتحول إلى عصف ألوان مع «شروق» الليل وإلى مهرجان موسيقى تراثية وحديثة في آن.
أما الناس، العاديون خصوصاً، الذين يتهادون في الشوارع فلا تلمح في عيونهم سوى سكينة عميقة مثلومة وشجية. هناك إحساس بأنهم تاريخياً «مظلومون»، تماماً كما الشيعة الذين لا يرون في الحسين سوى إمام المظلومين وحيث يتراءَون في جامع يريفان الأزرق الجميل بإمامة الشيخ محمود موحدي فر. لكن مشرقية الأرمن المتأصّلة الطالعة من جبال عالية مشرئبّة، تُضفي إباء وعنفواناً وتصميماً تطبع الشعوب التي تشعر دائماً بالقلق على الهوية والمصير.

ظلّ أرارات
في كلّ المجتمعات التي تواجه تحدّي الهوية العرقية والدينية الدائم، يتقدم الحرص على المحافظة عليها بكلّ الطرق الممكنة. لكن المجازر التي تعرّض لها الأرمن في الدولة العثمانية في عام 1915 تقع خارج كلّ السياقات، حيث تحفر ذكرى «الإبادة» في ذاكرة الأرمن منذ أكثر من 104 أعوام. من تلة موقع متحف الإبادة، المنعتقة في موسيقى جنائزية تشبه الصمت الخاشع، تنبسط يريفان ويُرى في الأفق البعيد جبل أرارات الذي كان في ذروة الحر، مكلّلاً ببعض الثلج.
انتهت محاولات التقريب بين تركيا وأرمينيا والأرمن، والتي بدأت في عام 2005، إلى فاجعة دراماتيكية في العام الماضي، بتمزيق الوثائق التي تبادلها وزيرا خارجية الطرفين في زوريخ في عام 2009، واعتبار ما جرى كأنه لم يكن. أنقرة ترى أن التاريخ النهائي للمجازر لم يُكتب بعد، والذي يكتبه هم المؤرخون وليس رجال السياسة، فيما يرى الأرمن أن الأمور غير قابلة للنقاش ومحسومة في أن ما جرى كان «إبادة ونص»، ومن يقلْ غير ذلك يسعَ للتهرّب من تحمّل المسؤولية والاعتراف والتعويض.
يحشد أرمن قره باغ لدعم قضيتهم بعقد المؤتمرات، وآخرها في ستيباناكيرد


أضاف تفكك الاتحاد السوفياتي إلى «جدول هموم» الأرمن بنداً / همّاً جديداً، قد لا يشكل لهم إزعاجاً، بل يعتبرون أنه، رغم مخاطره، إنجاز لنضالهم القومي، وهو مسألة ناغورني قره باغ، أو كما يسميها الأرمن «أرتساخ» التي تعني غابة أو كرمة الإله آرا. وبعدما كانت على امتداد 70 عاماً ذات حكم ذاتي ضمن جمهورية أذربيجان، أعلنت في عام 1991 استقلالها الكامل عن أذربيجان وإعلان نفسها جمهورية. ويتحجّج الأرمن في ذلك بأن ناغورني قره باغ / أرتساخ كانت قبل عام 1920 جزءاً من أرمينيا قبل أن يضمّها الروس إلى أذربيجان، وأن المسار «الطبيعي» أن تعود قره باغ إلى ما كانت عليه قبل عام 1920 وأن تنضم من جديد إلى أرمينيا. لكن دون ذلك عقبات قانونية كون أرتساخ في القانون الدولي لا تزال منطقة حكم ذاتي ضمن أذربيجان، ولو ضمت أرمينيا أرتساخ فإن ذلك سيُعتبر إعلان حرب على أذربيجان. لذلك، اختطّ أرمن قره باغ مساراً مختلفاً، وهو إعلان الجمهورية في 2 أيلول 1991 كحلّ يمكن أن يؤدي إلى الهدف الأساسي وهو فك الارتباط عن أذربيجان والعمل على كسب الاعتراف الدولي بها. وهو أمر لا يبدو أنه متيسّر في المديَين القريب أو المتوسط، خصوصاً في ظلّ تحكم توازنات المصالح في مواقف الدول وأولها الدعم الأميركي لتركيا وأذربيجان. مع ذلك، يحشد أرمن قره باغ لدعم قضيتهم بعقد المؤتمرات، آخرها في ستيباناكيرد، وتكثيف الاتصالات وطرح القضية في المحافل الدولية وتشكيل رأي عام ضاغط في العديد من البلدان والعواصم المؤثّرة ولا سيما في الولايات المتحدة الأميركية. وما يلفت هنا أن حزب «الطاشناق»، الناشط الأول وشبه الوحيد، منذ نهاية القرن الـ19 دفاعاً عن القضية الأرمنية هو المحرّك الأول للدفاع عن ناغورني قره باغ، فيما هو محاصر ومحظور وحتى ملاحَق في أرمينيا نفسها وغير ممثّل لا في البرلمان ولا في الحكومة!
ما يعقّد قضية أرتساخ أن أرمنها استولوا على أراضٍ كانت خارج منطقة الحكم الذاتي وتُعتبر في القانون الدولي احتلالاً. وهو ما مكّن قره باغ من أن تتصل جغرافياً وبشكل كامل مع أرمينيا في انتظار إيجاد حلّ نهائي لها.
في أرمينيا ويريفان لا تسمع سوى كلمة «تركيا أو تركي»، لكن في أرتساخ لا تسمع سوى كلمة «أذربيجان أو أذري». وهذا طبيعي، فالهمّ الداهم في قره باغ هو العلاقة مع أذربيجان فيما العلاقة مع تركيا هي الهمّ الدائم في أرمينيا.

ذهب ورمّان
يفتخر أبناء قره باغ بتضحياتهم، ولا سيما في معركة استعادة «جبال عُمر» الوعرة جداً والجميلة جداً والغنية بالذهب، حيث آثار التنقيب عن الذهب في بداية تلالها واضحة جداً، وحيث في نقطة منها قبل نهايتها مركز أمني يعلن بدء حدود أرتساخ التي تفصلها عن أرمينيا. هناك أيضاً ممرّ كلبجار الحيوي جداً والساحر جداً والذي ذاع صيته في المعارك بين الأذريين والأرمن. وفي هذا السياق، تحتل مدينة شوشي مكانة مميزة في وجدان القره باغيين، وكيف استعادوها من الأذريين بأعجوبة عسكرية عبر وادٍ عميق وشديد الانحدار. ولا يكلّ غارو كبابجيان، سفير أرتساخ لدى الشرق الأوسط، من الشرح بالتفصيل عن معركة شوشي وطرد الأذريين منها. وهو نفسه يشرح بحماسة كيف رمّم سكان شوشي بمساعدة من إيران جامع شوشي المركزي القديم، ذا العقود الرائعة من داخله، وكيف حافظوا على مقابر المسلمين في باحته الخارجية.
إذا كانت أرتساخ تزيد عن مساحة لبنان بألف كلم (11458كلم مربع) فإن سكانها لا يتعدّون الـ150 ألفاً، وهو عدد يشكّل، بقلّته، عبئاً على القضية. مع ذلك، فإن مهرجان «عيد الحصاد» الذي ينعقد كلّ عام في بدايات الخريف (زمن نضوج الثمار) في ساحة العاصمة ستيباناكيرد هو مناسبة ليختلط الجميع، من رئيس الجمهورية باكو ساهاكيان إلى مطران أرتساخ باركيف مارتيروسيان والمزارعين الذين يبيعون منتجاتهم. كلمات وصور وأغانٍ وموسيقى ومشاوٍ يغطّي دخانها ساحة المدينة حيث أيضاً القصر الرئاسي ومبنيا البرلمان والحكومة التي تجتمع كلّها في الساحة الجبلية الطولية الشكل. وعندما تسأل لماذا أحجام الدجاج صغيرة، يجيبونك بأنها طبيعية غير محقونة بالهرمونات، وكذا بالنسبة إلى كلّ أنواع الفواكه والخضار التي تجلس على عرشها فاكهة الرمّان، رمز أرمينيا وأرتساخ، والتي تواجهك أينما ذهبت، لدى بائعي العصير وفي اللوحات والحرف اليدوية والتذكارات والقمصان، مثلما هو الأرز رمز لبنان. وإذا كان الأرز لا يُعصر، فإن رمان يريفان يودع عصيره دمك ليصبح أكثر نقاوة وصفاء ونشاطاً، في ظاهره كما في باطنه.