أن تصل طوكيو قبل ساعة من إعصار يوقف حركة الطيران مؤقتاً، يعني أنك محظوظ حتماً. سيلزمنا وقت قصير فقط حتى نسمع بالإعصار من موظّفي الفندق، وهم يعتذرون عن أيّ خلل أو بطء محتمل في أداء شبكة الإنترنت. على الأرجح، لولا تلك الملاحظة لما كنّا شعرنا بشيء غير طبيعي، (بالأحرى طبيعي). «نحن على موعد مع الدهشة»، هذا هو مونولوجنا الداخلي، لا سيّما مع المخزون المسبق من الإعجاب الذي يحمله زائر من العالم الثالث إلى «كوكب اليابان»، كما درجنا على تسمية هذه الدولة المثيرة للفضول. بمرور الوقت، سنكتشف أن المبعث الحقيقي للدهشة هنا، هو الإنسان.تتوقّف الحافلة عند واحدة من إشارات المرور الكثيرة بين مطار هانيدا وقلب العاصمة اليابانية طوكيو، في انتظار الضوء الأخضر. تقول الأسطورة المتداولة عن اليابان إنها احتفلت قبل سنوات طويلة بإزالة آخر إشارة مرور، الأمر الذي يناقض كلياً واقع الحال؛ إذ تحضر الإشارات الضوئية حتى في بعض الأرياف القصِيّة، وسط التزام تامّ من السائقين والمشاة. التزامٌ ليس سوى تفصيل طبيعي بسيط في إطار منظومة الأخلاق العامة. في اليومين الأولين، ننشغل بمحاولات الوصول إلى إجابة عن سؤال تفرضه الدقّة المتناهية التي يسير بموجبها كلّ شيء هنا: «ما السرّ؟ قوة النظام (system) أم انضباط اليابانيين؟». بعد أيام قليلة، كانت الإجابة المرجّحة هي أن الشعب الياباني متماهٍ تماماً مع الـ«system». يمكن القول بيقين تام إن المنظومة الأخلاقية هي مَن يحكم اليابان. «العيب» حاضرٌ هنا، لكن مفاهيمه تختلف عن الدارج في بلادنا.
يروي فادي (اسم مستعار)، وهو طالب سوري في إحدى جامعات طوكيو، حادثة وقعت في جامعته قبل فترة: حالة طارئة استدعت مسارعة الطلبة إلى تنظيف إحدى القاعات. كان البروفيسور المشرف على الطلبة على رأس المشاركين في العملية. يحرص الطالب على ذكر المكانة المرموقة التي يحظى بها البروفيسور عالمياً، وعلى الإشارة إلى أن عمره تجاوز الستين. ويضيف: «طبعاً ما ممكن ما ينضف معنا، هاد عيب كبير هون». نضحك إذ نقارن الحالة بحالة طبيب سوري شاب، كان أصدقاؤه ينعتونه بالبخل لأنه ينظف عيادته بنفسه رافضاً توظيف أحد للقيام بتلك المَهمة، ويختمون أحاديثهم عنه بالقول «يا عيب الشوم». يوضح الشاب أن قيام الموظفين بتنظيف أماكن عملهم أمر طبيعي وشائع، وأن وظيفة «الآذن» (أو المستخدم) ليست رائجة. يبدأ دوام معظم الموظفين الحكوميين في الثامنة صباحاً، وتنتهي أعمالهم في الرابعة، ثم يقضون الوقت حتى الخامسة في أعمال التنظيف وإعداد ملفات الغد.
يعرض أحد الفنادق الفخمة في طوكيو هدية للنزلاء الراغبين في تنظيف غرفهم بأنفسهم. يقول الإعلان الموجود داخل الغرف إن النزيل الذي يملأ استمارة تنظيف ويقدّمها إلى موظفي الاستقبال سيكون مسؤولاً عن تنظيف غرفته، ويحصل في مقابل ذلك على قسائم شرائية يمكن استخدامها في مقاهي الفندق. بدافع الفضول، نسأل موظفي الاستقبال عن مدى تجاوب الزبائن مع هذا العرض؛ فقيمة المكافأة متواضعة قياساً بالمستوى الاقتصادي المفترض لنزلاء مكان بهذه الفخامة. تؤكد إحدى الموظفات أن كثيراً من النزلاء ينخرطون في هذا البرنامج. ويمكن التخمين أن أهدافهم ليست مادية على الإطلاق، بل مرتبطة بـ«ثقافة عيش». اللطف الهائل الذي يطبع اليابانيين يبدو مثيراً للفضول بدوره، لا سيما أنه يبدو أشبه بأداء سلوكي أكثر من كونه سجية. من الصعب تماماً أن تعرف ما الذي يشعر به ياباني أمامك، هل هو سعيد؟ أم حزين؟ أم غاضب؟ ثمّة إجابة واضحة وحيدة: إنه يعاملك بلطف. طبعاً، سيكون من شبه المستحيل أن تضرب موعداً مع ياباني، وتصل قبله. يمكنك الحفاظ على دقة مواعيدك بقليل (أو كثير) من الجهد، لكنك غالباً ستجد الياباني في انتظارك، ومن دون أن يبدو عليه أنه بذل أيّ جهد للوصول في الموعد المحدد.

اليابان وسوريا
تُعدّ منطقة الشرق الأوسط أحد الأعمدة الستة الأساسية للسياسة الخارجية اليابانية، وفقاً لشيجيرو إندو، المساعد الخاص لوزير الخارجية، تارو كونو (صار بفعل التعديل الحكومي الأخير وزيراً للدفاع). تقوم السياسة اليابانية في المنطقة، على محاولة الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الجميع، مع السعودية كما مع إيران، ومع الكيان الإسرائيلي كما مع سوريا. يشرح «القائم بأعمال السفارة اليابانية في دمشق»، فوتوتشي ماتسوموتو (انتقل إلى مَهمة دبلوماسية جديدة مطلع هذا الشهر، وخَلَفه في مهمته أكيرا إندو) أن سياسة بلاده تجاه سوريا تتمايز عن الحليف الأميركي. يؤكد ماتسوموتو أن سياسة بلاده «لا تتّصف بالفوقية»، ويضيف بلغة عربية جيدة أن اليابان تعتمد مبدأ «نظرة من فوق، نظرة من تحت». كلّ ما حصل في سوريا يمكن فهمه بالنسبة إلى ماتسوموتو، باستثناء تفصيل شديد الأهمية، خلاصته: «كيف سمح السوريون بتدخل كلّ هذه الدول في شؤونهم»؟
تُعدّ اليابان من الدول المانحة النشطة في سوريا، من دون أن تُعيقها قيود العقوبات الاقتصادية الغربية. وتقوم بتمويل كثير من المشروعات الإنسانية عبر منظمات الأمم المتحدة. في أواخر أيلول الماضي، أعلنت طوكيو عن حزمة مساعدات إنسانية جديدة بقيمة 12 مليون دولار «لتخفيف معاناة الفئات الضعيفة في حلب والمناطق المجاورة»، على أن يتم تقديمها عبر برنامج مشترك بين «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي / UNDP» و«منظمة الصحة العالمية»، و«مفوضية شؤون اللاجئين». خُصِّصت الحزمة لإعادة تأهيل وتجهيز مستشفى الأطفال (أحياء حلب الشرقية)، ودعم تعزيز سبل العيش في المنطقة. ومنذ عام 2012، بلغت المساعدات اليابانية داخل سوريا (بما في ذلك المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق) 535 مليون دولار. ليست اليابان إحدى الوجهات السهلة للسوريين. لكن مع ذلك، كان عددهم فيها قبل الحرب يراوح بين 400 و500 شخص، أما اليوم فيقارب 800 شخص. ارتفاعٌ أسهم فيه تنشيطُ برنامج منحٍ للطلاب السوريين في السنوات الأخيرة، وفق ما يشير إليه ماتسوموتو. ويوجد في طوكيو مطعم سوري وحيد.

على أطلال «تسونامي»
منذ أكثر من ثمانية أعوام (آذار 2011)، وقبل أيام من اندلاع الحدث السوري، اجتاح «تسونامي» مدمّر مناطق عدة في شمال اليابان عُرف باسم «تسونامي توهوكو»، وترافق مع زلزال يُعدّ خامس أعنف زلزال في العالم منذ عام 1900، بلغت شدّته 8.9 درجات على مقياس ريختر. كانت مدينة ريكزنتاكاتا، على شاطئ المحيط الهادئ، واحدة من المدن التي أصابتها النكبة. خسر أكثر من نصف سكانها منازلهم، وسُجّل ألفان في عداد المفقودين. عدد سكان المدينة الصغيرة اليوم حوالى 24 ألف نسمة، أكثر من ثلثيهم من كبار السن، وهذا واحد من التحدّيات التي تواجه السلطات المحلية. لا تزال أعمال إعادة الإعمار مستمرة هناك. في أحد مواقع العمل، يشرح المسؤولون المحليون ما تمّ تنفيذه وكيف. أن تكون في موقع تدور فيه أعمال الحفر والبناء في اليابان لا يعني أبداً أن النظافة لن تكون سمة المكان، مثل أيّ مكان آخر. وباستثناء الأتربة، يصعب عليك أن تلمح ما يشوب الطابع العام ويسيء إلى نظافته.
تُعدّ منطقة الشرق الأوسط أحد الأعمدة الستة الأساسية للسياسة الخارجية اليابانية


بعد امتصاص الصدمة، استغرق الأمر عاماً ونصف عام من التشاور والتخطيط قبل أن تنطلق العملية تحت عنوان «Build back better». يوضح عمدة المدينة، فوتوشي توبا، أن الخطة لم تنصّ على عودة كلّ شيء إلى ما كان عليه تماماً، بل على أن يُعاد بصورة أفضل. «كانت الكارثة قد أطاحت السكك الحديدية. مع إعادة الإعمار، تقرّر عدم إنشاء سكك جديدة، لأن سكان المنطقة أصلاً قليلون، وكانت شركات القطارات تعاني من خسارات سابقاً، فتمّ تحويل مسار السكة إلى خط سير خاص بالباصات»، يقول. انصرف الاهتمام إلى ضرورة تحصين المدينة في وجه كوارث مستقبلية قد تقع. تمّت دراسة معطيات «التسونامي» السابق، وأعيد تخطيط المناطق المواجهة للشاطئ. بُنيت جدران عازلة مقاومة للأمواج، بقوة تحمّل للضغط تفوق ما كانت عليه بـ15 ضعفاً. حُفر الجبل المجاور، واستُخدمت أتربته لردم الشاطئ ورفع منسوب اليابسة. نُقلت التربة المحيطة، وتم تنظيفها من الأملاح، وأعيدت ليُزرع فيها الرز. بلغت ميزانية «إعادة الإعمار» في هذه المدينة 3.5 مليارات دولار، وأُعطيت الأولوية لتأمين مساكن للجميع، بالتوازي مع تأمين لوازم حياتهم من طعام وملبس وما شابه، ثم للمرافق العامة، فالمؤسسات الاقتصادية، وجاء في نهاية المطاف دور الدوائر الحكومية والبلدية. أما مدينة أوفانتو المجاورة، فيشرح عمدتها، كيمياكي تودا، أن تكلفة إعادة إعمارها بلغت 4 مليارات دولار، وفق خطة امتدّت على عشر سنوات (عدد سكان أوفانتو 35 ألفاً و605 نَسَمات فقط). يشرح أيضاً أن الاهتمام أولي لإعادة تدوير العجلة الاقتصادية في المدينة، ويفتخر بأن أرباح سوق السمك اليوم قد عادت إلى ما كانت عليه قبل الكارثة. أما أسعار العقارات، فهي اليوم أقلّ مما سبق.

دمشق.. في مدرسة يابانية
يمكن القول، إن زيارة مدرسة يابانية هي فرصة لا تُقدّر بثمن. قرّرت حكومة المقاطعة الإبقاء على مبنى إعدادية ريكزنتاكاتا المتضرّر ليكون شاهداً على الكارثة. بُنيت مدرسة ضخمة جديدة يدرس فيها اليوم 177 طالباً تراوح أعمارهم بين 12 و15 عاماً. بعد أن تخلع حذاءك، تدخل المدرسة من مكتبتها. الممرّات هنا رفوف من الكتب، تقودك إلى وجهتك في طبقات المدرسة الثلاث. لا جدران كثيرة تعترض نظرك. التعليم مجاني بالكامل، بما في ذلك الكتب المدرسية، فيما يدفع الطلاب فقط ثمن وجبات الطعام إذا ما قرّروا الاستفادة منها. الجدران التي تفصل بين الصفوف متحركة، بما يسمح بتحويل صفين أو أكثر إلى قاعة كبيرة. تطلّ جميع الصفوف بواجهات عريضة على ملاعب المدرسة، ومن خلفها المحيط الهادئ. يلفت انتباهنا مَنشر غسيل معدني فوقه مماسح كثيرة. نسأل، فيخبرنا مدير المدرسة أنها المماسح التي يستخدمها الطلاب والمعلمون في نهاية الدوام لتنظيف مدرستهم يومياً. ملعب كرة القدم ضخم ومجهّز. إحدى الصالات المغلقة مصمّمة لتكون قاعة مسرح وصالة للعب كرة السلة في الوقت نفسه. الصالة المجاورة مخصّصة لكرة الطاولة. وكلتاهما مجهّزتان للتحول إلى ملاذ آمن للطلاب وسكان المدينة في حال حدوث كارثة طبيعية. يمكن التنقل بين الطوابق بواسطة الأدراج، أو عبر المصاعد التي خُصّص أحدها للمعوّقين. لو أغمضت عينيك وتجوّلت هنا، قد تتخيل أنه يوم عطلة بفعل انعدام الضجيج، لكنك ستكتشف أن الطلاب في صفوفهم، والحصص الدرسية التفاعلية مستمرّة. في إحدى القاعات يتلقّى الطلاب، إناثاً وذكوراً، درس الأشغال المنزلية. ندخل أحد الصفوف، يسأل المدرّس تلاميذه: «من يعرف ما هي عاصمة سوريا»؟، لينهمك الكلّ بلمح البصر في البحث، البعض في خرائط ورقية، والبعض عبر الإنترنت بواسطة الأجهزة الإلكترونية الشخصية، فيجدوا الإجابة بأنفسهم بدقيقة أو اثنتين، ويتكرر الاسم على ألسنتهم تباعاً: «دمشق».



«أساهي»: صحيفة السبعة ملايين نسخة
تُعدّ صحيفة «أساهي» (يعني اسمها شروق الشمس) واحدة من أهم خمس صحف يابانية. مقرّ الصحيفة مبنى ضخم تتوزّع فيه الأقسام الفنية والإدارية ومكاتب التحرير، فضلاً عن المطابع التي تشغل الطوابق الأربعة السفلى من المبنى. تُصدر الصحيفة طبعتين يومياً: 6 ملايين نسخة صباحية تُباع الواحدة منها بحوالى 1.5 دولار، و1.2 مليون نسخة مسائية تباع واحدتها بحوالى 0.5 دولار. ويفاخر مسؤولو الصحيفة بتفاصيل كثيرة، من بينها أنها «الصحيفة الوحيدة في اليابان التي تقع مطابعها في مبنى التحرير نفسه»، إضافة إلى «وجود نادٍ رياضي فيها خاص لموظفيها في المبنى نفسه». عدد موظفي «أساهي» سبعة آلاف، من بينهم ثلاثة آلاف صحافي، ولديها 50 مكتباً حول العالم. خلفية حاسوب محرر الشؤون الدولية هي صورة من مدينة حلب. يحكي بشغف عن زيارته إلى المدينة، وعن الجهود التي بذلها لإقناع إدارته بإرساله إلى سوريا عام 2012، لتتكرّر زيارته بعدها ستّ مرات أخرى، زار خلالها مدناً عدة من بينها حلب، اللاذقية، طرطوس، حماة، حمص، تدمر ودمشق. يقول أحد المسؤولين الحكوميين اليابانيين إن «أساهي» صحيفة معارضة محسوبة على اليسار، ويضربها مثالاً عن حرية الصحافة في بلاده. نغادر مقرّ الصحيفة، لنجدَ أمامها بضعة محتجّين يرفعون لافتات تنتقدها، ونفهم منهم أن «أساهي» في رأيهم «تُجامل الحكومة».


صناعة الأمل
«الشجرة المعجزة»، هو الاسم الذي اشتُهرت به شجرة صنوبر كانت «الناجي الوحيد من المجزرة». صمدت شجرة الصنوبر هذه أمام الكارثة التي أودت بغابة كانت تضمّ 70 ألف شجرة. ارتفاع «المعجزة» 27 متراً. وعلى رغم أنها ظلت واقفة، إلا أن علامات الموت بدأت بالظهور عليها بعد فترة من الكارثة. تقرّر تحويلها إلى رمز للأمل، حُنّطت، وغرس داخلها عمود معدني لتبقى واقفة، وتحوّلت إلى نصب تذكاري. الشجرة نفسها باتت هوية بصرية تجدها مطبوعة على الملابس، أو على زجاجات «ساكي» (مشروب كحولي محلي مصنوع من الأرز). لتعويض الغابة، تتمّ على مراحل زراعة 40 ألف شجرة، قد يحتاج نموّها إلى قرابة 50 عاماً.