«معاهدة الدفاع المشترك» بين إسرائيل والولايات المتحدة، والتي كانت حتى الأمس القريب موضع رفض لدى معظم الأجهزة الأمنية والعسكرية، وكذلك معظم القوس السياسي في تل أبيب، تعود إلى الواجهة من جديد، على خلفية البحث عن عامل قوة إضافي، في ظلّ تنامي التهديدات وتقلّص الفرص في المحيط الاستراتيجي الدولة العبرية. رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، كان تحدّث عن هذه المعاهدة مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة في أيلول/ سبتمبر الماضي، إلا أن هذا الحديث تراجع وبل خفت قبل أن يعود ليتقدّم من جديد في جدول الأعمال الإسرائيلي، إلى جانب الأزمة الداخلية التي تدفع إلى انتخابات ثالثة.بحسب نتنياهو، فإن من شأن المعاهدة، التي هي «إنجاز تاريخي»، أن «تضمن أمن إسرائيل لأجيال، عبر إضافة عنصر ردع قوي ضد أعدائنا»، وهو ما قوبل - مثلما في السنوات الماضية - بتشكيك ورفض واسعين، سواء على خلفية الخصومة السياسية، أم بسبب وجود تفاوت في التشخيص للمصالح الأمنية الإسرائيلية. وعلى الرغم من أن أسلوب نتنياهو في عرض فكرة المعاهدة مُخصَّص كذلك للتوظيف السياسي الداخلي في أكثر من اتجاه، ومن بينها التوظيف على المستوى الشخصي بمواجهة اتهامه بالفساد والرشى، إلا أنه لا يلغي الدافع الفعلي الذي تسبّب بتغيّر الموقف التاريخي للجيش الإسرائيلي من رفض المعاهدة إلى قبولها.
قبل أيام، كشف السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة، رون دريمر، أن «الفكرة حظيت بتأييد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي، ومستشار الأمن القومي مئير بن شبات، وكذلك رئيس الحكومة نتنياهو». وأضاف، في مداخلة أمام «المعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي» (معاريف 26/11/2019)، أن «أعضاء كباراً» في إدارة ترامب «يميلون بشكل إيجابي» إلى الفكرة، ومعهم «أعضاء كبار في مجلس الشيوخ»، معتبراً أن «مثل هذا الاتفاق سيوفر لنا طبقة إضافية من الردع ضدّ أشدّ التهديدات التي تواجه إسرائيل».
لطالما امتنعت إسرائيل، كما الولايات المتحدة، عن المضيّ في «معاهدة دفاع مشترك» بينهما، ليس لرفض إحداهما إعانة الأخرى في مواجهة التهديدات، بل على اعتبار أن ما يجمع الطرفين أعلى مستوى وأكبر تأثيراً من معاهدة يوقعان عليها. وعلى الرغم مما يقال في تل أبيب من أن رفض المعاهدة مردّه ما تتسبّب به عملياً من تكبيل للجيش الإسرائيلي في مهامّ معينة، أو على الأقلّ الحدّ من حريته وهامش مناوراته بشكل مستقلّ عن الأميركيين، إلا أنه في المقابل لا يمكن تخيّل إقدام إسرائيل على أفعال استراتيجية أو ما دونها من دون التنسيق مع الأميركيين، أو في حدّ أدنى الاطمئنان إلى أن هذه الأفعال لا يمكن أن تؤذيهم أو تؤثر على استراتيجياتهم وسياساتهم في المنطقة. من هنا، يُعوَّض عن رفض المعاهدة من قِبَل الجانبين باتفاق غير مكتوب أكثر تحقيقاً لمصلحتَيهما مما يمكن أن تفعله المعاهدة نفسها. إذ أنه انطلاقاً من الدور الوظيفي للكيان، لإسرائيل أن تُقدِم على أفعال عدائية تخدم السياسات المشتركة، من دون أن تكون للولايات المتحدة مصلحة في القيام بها مباشرة أو تحمّل المسؤولية عنها، على الرغم أنها هي التي تكون قد سمحت بها أو حثّت عليها. يعني ذلك أن إسرائيل متوفّرة على منافع «معاهدة الدفاع المشترك» من دون أيّ توقيع عليها، على اعتبار أن تلك المنافع موضع التزام أميركي لا جدال فيه، مع هامش يتيح للأميركيين الاستفادة من أفعال إسرائيل أو حثّها على تخفيفها. وعليه، فإن التوقيع على المعاهدة يُفقد إسرائيل فوائد يتعذّر تعويضها، بل ويسبّب لها ضرراً تكفي للتدليل عليه الإشارة إلى أن الكيان العبري لن يستطيع، بموجب المعاهدة، استخدام التهويل بمهاجمة إيران.
بالأمس، كشف وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في مقابلة مع «إذاعة الجيش» تفاصيل فكرة المعاهدة وموجباتها، معتبراً أن «انتقاد معاهدة الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة على اعتبار أنها تكبّل أيدي الجيش الإسرائيلي، وتحدّ من مبادرته المستقلة، كما يمكن أن تدفع بجنوده إلى أفغانستان وغيرها، هو انتقاد غير ذي صلة بالواقع». وأشار إلى أن «الأمر يتعلّق بحاجة إلى تخصيص موارد جدّية جداً ضد تهديد صاروخي إيراني، من خلال إمكانية الاستعانة بالبنية التحتية الأميركية الإقليمية الموجودة في المنطقة، ما يعني إزاحة عبءٍ مهم جداً عن كاهلنا».
ما الذي يعنيه ذلك:
أولاً: لا تملك إسرائيل قدرة دفاعية ذاتية في مواجهة تهديد إيران الصاروخي، سواءً في ما يتعلق بالمستوى الحالي من التهديد، أم ذلك المقبل مستقبلاً.
ثانياً: لا تقدر إسرائيل، أو تخشى في حدّ أدنى، فشل استراتيجياتها والولايات المتحدة في إسقاط النظام الإسلامي في إيران، أو على الأقلّ في الحدّ من تنامي قدرة إيران العسكرية.
ثالثاً: تأمل تل أبيب الرسمية، بما يشمل الجيش الإسرائيلي، أن يدخل في وعي الأعداء (إيران وحلفاؤها) أن طبقة أخرى من القدرات الإسرائيلية أضيفت إلى القدرة الموجودة حالياً، وهي التزام الولايات المتحدة بالدفاع عنها، وأيضاً التزامها بالردّ على من يعمل على الإضرار بها، وأن إسرائيل ليست السعودية، وعليه فلا تسري عليها سياسة الانكفاء الأميركي.
في الخلاصة، ثمّة إقرار من رأس الهرم السياسي والعسكري في تل أبيب، من خلال القبول بالمعاهدة وطلبها أيضاً، بأن إسرائيل فشلت حتى الآن في مواجهة إيران وأنها ستفشل في ذلك مستقبلاً، من خلال قدرتها الذاتية. وتلك نتيجة لا يغيرها إن توصل الجانبان إلى التوقيع على المعاهدة أم لم يتوصّلا.