اشتُهرت تركيا بأنها الدولة المسلمة الأولى التي اعتمدت العلمانية في الدستور والقوانين وفقاً لـ«الثورة الإصلاحية» التي جاء بها مصطفى كمال أتاتورك، منذ إعلان الجمهورية في عام 1923. وإذا كانت العلمنة لم تُشرَّع في الدستور إلا في عام 1937، فإن إجراءات التطبيق بدأت على امتداد سنوات ما بعد عام 1923. وعلى الرغم من كلّ الانتقادات التي وُجّهت إلى طبيعة العلمنة المطبّقة في تركيا ومدى مطابقتها لتلك الموجودة في دول غربية، مثل فرنسا أو الولايات المتحدة أو غيرهما، فإنها أتاحت للمجتمع التركي أن يتعرّف عن كثب إلى هذا النموذج المغاير للنموذج الديني الذي اعتُمد، من حيث المبدأ، في عهد السلطنة العثمانية. ونقول «من حيث المبدأ» لأن القوانين السلطانية كانت تتعارض أحياناً كثيرة مع قواعد الشريعة وتأخذ في الاعتبار مصالح الدولة ورأسها «خليفة المسلمين».وغالباً ما كان الصراع الديني - العلماني من عناوين المشهد الداخلي في تركيا على امتداد عمر الجمهورية وحتى الآن. لكنّ أكبر محاولات تغيير الطبيعة العلمانية للدولة جاءت في عهد حزب «العدالة والتنمية»، بدءاً من تعديل المناهج التعليمية ومراحل التدريس، وصولاً إلى التثقيف الديني عبر الإعلام والجمعيات والمؤسسات الرسمية نفسها. ودائماً ما كان الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، يكرّر عبارة أنه يجب تنشئة جيل محارب متديّن، رداً على تنشئة أتاتورك لجيل محارب علماني. في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، انعقدت الجلسة الختامية للمؤتمر السادس لـ«مجلس الشورى الديني» في أنقرة. وفي كلمته أمام المجتمعين، أطلق إردوغان مواقف اعتبرها العلمانيون استفزازية ومثيرة للتساؤلات عمّا إذا كانت العلمانية في تركيا في خطر أم لا. قال إردوغان من جملة ما قال: «إن ديننا الإسلام هو منظومة قواعد ومحظورات تطاول كلّ مجالات حياتنا وتحيط بها. نحن نؤمن بدين ينظم كلّ صفحة من سلوكنا، من التجارة إلى العلاقات البشرية ومن التربية إلى التعليم إلى الزواج، ومن النظافة إلى الزي. وعلى الرغم من تغيّر الزمن والظروف، فإن نصوص الإسلام لا تتغيّر. أينما وكيفما عشنا، فإن الشهادة والصلاة والصوم والحج والزكاة هي فرض علينا وهكذا ستبقى. وسيبقى كذلك ممنوعاً الربا والكذب والظلم والتكبر والافتراء والتجسّس والزنا والسرقة وقتل البريء. ولا يليق بمسلم أن يعتبر أوامر القرآن غير موجودة وأن يستخفّ بها وأن يعتبرها غير موجودة. ولا يمكن لأحد أن ينكر وجود هذه النصوص بذريعة أنها لا تنسجم مع الزمن ولا مع العقل. لأن المسلم مكلّف بأن يوائم حياته وفق الأسس الدينية وليس أن يوائم دينه وفقاً لظروف الحياة». وأضاف: «سوف نعيش بأن نضع الأسس الدينية في قلب حياتنا». واختزل إردوغان موقفه بهذه العبارة: «إن الإسلام لا يتحرّك وفقاً لنا. بل نحن سنتحرك وفقاً للإسلام».
خرجت تساؤلات عمّا إذا كانت هذه المواقف تنسجم مع النصوص الدستورية


لم يكن السجال الذي تلا ذلك مرتبطاً مباشرة بالصراع العلماني - الديني، بقدر ما شكّل تساؤلاً عمّا إذا كانت تلك المواقف تنسجم مع النصوص الدستورية التي أدّى رئيس الجمهورية القسم على أساسها. يصف الكاتب أورسان أويمين، في صحيفة «جمهورييت»، موقف إردوغان بأنه الأكثر إشكالية من بين كلّ مواقفه حتى الآن. يذكّر أويمين بالنصوص الدستورية التي تؤكد على علمانية الدولة. فالمادة الثانية من الدستور تشير إلى أن «الجمهورية التركية دولة ديمقراطية علمانية اجتماعية وحقوقية». وفي المادة 14: «لا يمكن أن تستخدم الحقوق والحريات الواردة في الدستور في أيّ نشاط يهدف إلى تخريب وحدة الدولة والأمة التي لا تنقسم، أو إلى إزالة الجمهورية الديمقراطية والعلمانية المتّكئة على حقوق الإنسان». وفي المادة 24: «لا يُسمح لأحد باستغلال الدين أو المشاعر الدينية أو المقدَّسات، أو إساءة استخدام أيّ من ذلك بأيّ طريقة كانت، بغرض مصلحة أو نفوذ شخصي أو سياسي، أو بغرض إقامة النظام الأساسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو القانوني للدولة على معتقدات دينية، ولو جزئياً». وفي 9 تموز/ يوليو 2018، أقسم رجب طيب إردوغان، بصفته رئيساً للجمهورية، بهذا القسم: «بصفتي رئيساً للجمهورية أقسم أمام الشعب التركي العظيم أن أحافظ على بقاء واستقلال الدولة، وعلى وحدة الوطن والشعب، وعلى سيادة الشعب المطلقة من دون قيد أو شرط. وأقسم أن ألتزم بالدستور وسيادة القانون والديمقراطية، ومبادئ وإصلاحات أتاتورك، ومبدأ الدولة العلمانية، وألا أتخلى عن مبدأ أمن ورفاهية الشعب وتمتع كل شخص بالحريات الأساسية وحقوق الإنسان في إطار مفهوم العدالة والتضامن الشعبي، وأن أحافظ على شأن وشرف الجمهورية التركية وأن أُعلي شأنها وأن أعمل بكلّ ما أوتيت من قوة للإيفاء بمهامّ وظيفتي بحيادية».
وفي عدد 8 كانون الأول/ ديسمبر 2019 من «جمهورييت»، اعتبرت وزيرة العدل السابقة، آيسيل تشيليكيل، أن «مواقف إردوغان تعني أنه يجب تطبيق القواعد الدينية في الحياة العامة والخاصة. وكيفما كان تعريف العلمانية، فإن حديث إردوغان يقشعرّ له البدن». ورأت تشيليكيل أن عدم الفصل بين الحياة العامة (الرسمية) والخاصة هو انتهاك لمبدأ العلمانية في الدستور. وقالت: «إن جعل الدين في مركز الحياة الاجتماعية سيكون عائقاً حقيقياً أمام ممارسة العيش بحرية دينية ومذهبية، بينما العلمانية هي ضمانة الحرية الدينية والمعتقد. والعيش وفقاً لقواعد دين واحد يفتح أمام الفوضى والحرب والاستبداد. وهو المشهد الذي نراه في كلّ دول الشرق الأوسط اليوم». وترى المحامية والمدافعة عن حقوق المرأة، نازان مورأوغلو، من جهتها، أن ما يضمن المصالحة في المجتمع ليس الدين بل القانون. عندما نضع الدين في مركز حياتنا فإن الوحدة الاجتماعية تتصدّع. لأنه لا يمكن لكلّ الناس أن يؤمنوا بالدين نفسه. ويعتقد المختص بالشأن الإسلامي، إيمري دورمان، بدوره، أن تجاهل إردوغان في «مؤتمر الشورى الديني» الإشارة إلى مبدأ العلمانية يخلق قلقاً كبيراً أمام الممارسات الاجتماعية، لأن حرية الدين والوجدان هي «إسمنت» المجتمع، بل إن المادة 25 من قانون تنظيم رئاسة الشؤون الدينية تنصّ على أن يكون موظفو الرئاسة خارج الأحزاب السياسية والعمل السياسي والديني، وقد رفضت المحكمة الدستورية تعديل هذه المادة قبل سنتين.
ويعتبر الكاتب أحمد أوميت أن الإنسان يمكن أن يطبّق في حياته الشخصية المعايير الدينية، ووفقاً لما يريد، وهذا لا يتعارض مع العلمانية. لكنّ الحياة العامة الرسمية شيء والخاصة شيء آخر ويجب إزالة أيّ عقبة أمام الحريات الدينية للمواطنين. أما دين الدولة فيجب أن يكون العدالة. ويقول أوميت إن المؤمن حرّ في أن يسيّر حياته وفقاً لما يريد، لكنّ هذا قرار شخصي، والدولة لا يمكن أن تكون مهندسة المجتمع. ويضيف أن الدولة لا يمكن أن تنكر وجود معتقدات المجتمع لكنها لا يمكن أن تجبر المجتمع على اعتناق معتقد معيّن. وتصف الكاتبة زلال قالقانديلين، من جانبها، ما قاله إردوغان بأنه «ضربة قاتلة للعلمانية». وتلفت إلى أن إردوغان ليس مجرد مواطن عادي يتحدث عن شخصه بل هو رأس الدولة ويتكلم بصفة الجمع: «سنتحرّك وفقاً للإسلام». وترى أنه إذا أراد إردوغان فعلاً تطبيق القواعد الإسلامية فعليه إلغاء القانون المدني وقانون التجارة وقانون التعليم العلماني، وفصل الطالبات عن الطلاب في المدارس، علماً أن تركيا أزالت من الدستور في 10 نيسان/ أبريل 1928 المادة التي تقول «إن دين الدولة هو الدين الإسلامي». وتُذكِّر الكاتبة بما قاله إردوغان في عام 2004 خلال لقائه نائب وزير خارجية الولايات المتحدة، مارك غروسمان، من أن «تركيا دولة علمانية اجتماعية حقوقية. هذا هو اسم دولتنا. الإسلام شيء مختلف. أن يعيش المسلم دينه هو في حماية العلمانية. وهذا مهم ليس فقط للمسلم بل للمسيحي واليهودي وغيرهما. لذا اسم دولتنا ليس الإسلام». وتقول الكاتبة إنه بعد 15 سنة يأتي إردوغان كرئيس للجمهورية ليقول: «سوف نتحرك في كلّ مجالات الحياة وفقاً للإسلام»، متسائلة: «ما الذي سيكون عليه حينها المواطنون المؤمنون بأديان أو مذاهب مختلفة؟ ومن أين ستأتي ضمانة حرياتهم الدينية والمعتقدية؟». لكنّ الكاتب حسن جمال، يُذكّر بتصريحات لإردوغان في عام 1996 قال فيها: «لا نريد أيّ مرجعية لنا في حياتنا وعملنا سوى الإسلام»، وقبلها في عام 1995 حيث رأى أن «القول بأن السيادة للأمة بلا قيد أو شرط هو كذبة كبيرة. إن الله هو صاحب الحاكمية المطلقة»، وأيضاً قوله: «نحن نقول إن الديمقراطية وسيلة وليست غاية». ويعقّب حسن جمال على تلك التصريحات بـ«(أننا) كنا نتساءل دائماً عمّا إذا كان إردوغان يخبّئ مشروعاً سرّياً. ونقول اليوم: نعم إردوغان يخبّئ مشروعاً سرّياً».