منذ انتخابه قائداً لحزب «العمّال»، قبل أربع سنوات، قورن جيريمي كوربن، مرّات عدّة، بمايكل فوت، الذي قاد الحزب إلى هزيمة مدوّية أمام مارغريت تاتشر، عام 1983. في ذلك الوقت، وُصف Manifesto فوت اليساري بأنه «أطول رسالة انتحار في التاريخ». أمّا Manifesto كوربن فقد كان، تقريباً، أطول بثلاث مرّات، بينما بدا أكثر فشلاً، ولا سيما أنه قاد حزب «العمّال» إلى أسوأ هزيمة له، منذ عام 1935. هذا التمهيد هو لمجلّة «ذي أتلانتك» الأميركية، والذي لخّصت بموجبه معظم الأفكار الواردة التي طُرحت، في اليومين الماضيين، تعقيباً على هزيمة «العمّال» الأخيرة.الأكيد الآن، هو أن الساحة تستعد لمعركة على مستقبل الحزب، بين أتباع جناح اليسار وبقايا اليسار الوسط. وكلّ ما سيجري تناوله، في الفترة المقبلة، سيتحرّك بناءً على الأسئلة الآتية: كيف خسر حزبٌ تمكّن من أن يمثّل الطبقة العاملة، أمام شخص مثل بوريس جونسون؟ هل قضت هزيمة «العمّال» على الكوربينية كفكرة؟ هل هي كافية لتنحية كوربن؟ هل يجب على الحزب رفض أفكاره؟
الإجابات كثيرة، تماماً كما الأسباب التي أدّت إلى الهزيمة. إلا أن كلمة واحدة تجمع مختلف أجزاء المشهد، وهي الـ«بريكست»، التي قد تبدو مبرّراً للبعض، وحجّة للتعمية على الواقع، بالنسبة إلى البعض الآخر. المدافعون عن كوربن، يقدمونها على أنها السبب وراء هزيمة «العمّال». أمّا ناقدوه ومعارضوه، من داخل الحزب وخارجه، فيرون أن الحقيقة هي أن «الكوربينية» وكوربن، هما سبب الأزمة.
بمعزل عمّا تقدّم، من الحقيقي القول إن «بريكست» أظهر انقساماً حاداً في الحزب، كما في السياسة البريطانية. «البريكست هيمَن»، في النهاية، قال وزير المال في حكومة الظل جون ماكدونل، الذي يعدّ من أحد أبرز المقرّبين من كوربن والمروّجين لأفكاره. ماكدونل أذعن للهزيمة، في معركة تمحورت بالنسبة إلى البعض حول «البقاء ضد المغادرة»، و«المدينة ضد البلدة»، و«الشباب ضد كبار السن»، و«الانفتاح ضد الحمائية».
ومن هذا المنطلق، تمكّن بوريس جونسون من امتصاص الواقع واللعب على أوتاره، وهو ما لم يفقه كوربن وجناحه اليساري القيام به، ذلك أن هذا الجناح لم يكن يسعى إلى إنقاذ قائده، بقدر ما كان يعمل على تأطير المعركة على روحية الحزب، بناءً على شروطه الخاصة. بالتالي، يبدو أن جونسون تمكّن من جمع المصوّتين على الخروج من الاتحاد الأوروبي وراء حزبه، في المكان ذاته حيث انكسر جناح الداعين إلى البقاء. بل أكثر من ذلك، كان بإمكان الناخبين الاختيار بين «العمّال»، و«الديموقراطيين الليبراليين« وحزب «الخضر»، و«الحزب الوطني الاسكتلندي»، والتي دعت كلّها إلى إجراء استفتاءٍ ثانٍ على «بريكست»، لكنهم اختاروا «المحافظين»، في ما قد يعدّ اعتراضاً على الذهاب باتجاه هذا الخيار.
من الحقيقي القول إن «بريكست» أظهر انقساماً حاداً في الحزب كما في السياسة البريطانية


بالرغم من ذلك، هناك من يرى أن السبب الرئيس وراء الهزيمة يكمن في مواقف كوربن من السياسة الخارجية، والتي كانت محطّ اهتمامه لفترة طويلة على حساب السياسة الداخلية. وقد تمكّن هؤلاء وغيرهم من الاستثمار في بعض هذه المواقف، والترويج لجزء منها على أنه مضيعة للوقت، مثل تركيزه على محاربة الإمبريالية، في حين احتجّ آخرون على مواقف أخرى اعتُبرت مثيرة للجدل بشكل كبير، ولا سيما تلك المرتبطة بتصريحات كوربن، عام 2009، عن لقائه بـ«أصدقائه» من حركة «حماس» وحزب الله. تصريحات تُستقدم ضدّه في كل مناسبه، وخصوصاً في سياق اتهامه بمعاداة السامية، التي كان لها دور كبير أخيراً في تحريك جزء من الناخبين ضدّة.
في المحصّلة، يتخطّى العديد من المراقبين الأسباب إلى النتائج، ويؤكدون أن الحزب سيواجه، الآن، واقع تحوّله إلى قاعدة لندنية، بعدما خسر جذوره في الشمال، كما سيتألم أمام واقع أن حماسته لإجراء استفتاء ثانٍ، نفّرت ناخبيه التقليديين. فقد ذهب المدّ بـ«العمّال» إلى أبعد ممّا هو متوقع، حيث أصبح حزباً في المدن الإنكليزية وضواحيها، بعدما سقطت مقاعده في معاقله التقليدية، في أنحاء وسط وشمال إنكلترا وشمال ويلز، في يد «المحافظين».
ولكن بالرغم من كل ما تقدّم، لا يزال البعض يصرّ على أن الـ«كوربينية»، التي تشكّلت وتحوّلت إلى مظلّة واسعة تجمع مختلف فصائل حزب «العمّال» لن تختفي على المدى القريب، ولا سيما أن كوربن الذي أعلن أنه لن يقود الحزب إلى انتخابات عامّة مقبلة، أكد في الوقت ذاته بقاءه على رأسه إلى حين اختيار قائد جديد. وإن كان هذا الأمر يعني شيئاً، فهو أن الخليفة المقبل، سيكون امتداداً لأفكاره، ما يعني أن «جيريمي كوربن انتهى كقائد لحزب العمّال، لكن القتال على إرثه بدأ للتو»، بحسب موقع «بوليتيكو ــــ أوروبا».
من هذا المنطلق، أكدت مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية، أن «العمّال» الذي شهد عودة إلى الوسط، مباشرة بعد هزيمة مايكل فوت عام 1983، لن يواجه هذا الواقع، الآن، بهذه السرعة. فالفترة الانتقالية التي سيقودها كوربن قد تحدّد مستقبل الحزب. ويبدو من المثير للسخرية أن التناقض الذي يحكم الحزب هو الذي سيحافظ على وجوده، ذلك أن «الكوربينيين» كانوا ناجحين في السيطرة على الحزب، بالقدر نفسه الذي كانوا فيه فاشلين في السيطرة على البلاد، بحسب «ذي إيكونوميست»، التي لفتت إلى أنهم يملكون الأدوات، والأعضاء الحزبيين الأقوياء، الذين سيمكّنونهم من ذلك، ولا سيما أن طاقة حزب «العمّال» العقلية والعاطفية لا تزال عند اليسار. في النهاية، يبدو أن «الحزب ككل لديه رغبة قليلة في العودة إلى الوسط»، وفق المجلّة.