هل بدأ «التوتر القنصلي» بين روسيا وإسرائيل يتحوّل إلى أزمة دبلوماسية تُنذر بالأسوأ؟ السؤال بات مطروحاً أكثر بعد تبادل منهجي لإجراءات التضييق ضد السياح ورجال الأعمال في مطارات البلدين، تخللها حجز حرّيات وعمليات تفتيش مُذلة وطويلة، وكذلك طرد لمواطنين روس من إسرائيل، وصلت إلى الآلاف في العام الأخير. وقبل أيّام تصدّر في إسرائيل خبر احتجاز 46 سائحاً إسرائيلياً في أحد مطارات موسكو لساعات، تخلّلته إجراءات تفتيش واستجواب وُصفت بالمُذلة. مقابل ذلك، صدرت توضيحات من بينها أن التوتر لم يأتِ نتيجة الإجراءات الأمنية في موسكو لوافدين إسرائيليين، بل نتيجة منع إسرائيل 5711 سائحاً روسياً من الدخول منذ بداية العام الجاري، من بينهم 568 فقط في الشهرين الأخيرين.
في الخلفية، تبدو عمليات التضييق و«الإذلال» في موسكو، كما توصّفها تل أبيب، نتيجة تداخل عوامل عدة يشترك فيها العامل الاستراتيجي الأعلى مع التكتيكي الأدنى، من دون فصل بينهما: بين تفضيل إسرائيل، الطبيعي جداً، لمصلحة الحليف الأميركي على الصديق الروسي، وبين سجن متهمة إسرائيلية بحيازة مخدّر، أريد لها أن تتصدر العنوان في إسرائيل، لتتحول إلى عنصر ضاغط على القيادة الإسرائيلية. وفي «خلطة الأسباب»، يبرز أولاً تسليم إسرائيل للهاكر الروسي أليكسي بوركوف، الذي كان معتقلاً في تل أبيب، للولايات المتحدة بناءً على طلبها، على خلفية جنائية وسرقة أموال، رغم أن موسكو أصرّت من منطلقات تتعلّق بأمنها على ضرورة تسليمه لها، لكون الهاكر مُقبلاً في واشنطن على أن يكون محلاً للتجاذب، في سياق أزمة الانتخابات الرئاسية والاتهامات الموجّهة إلى الروس بالتدخل فيها، إذ ربطت تقارير مختلفة بين بوركوف والمحاولات الروسية المزعومة للتدخل في الانتخابات الأميركية.
وفق روسيا، كان على إسرائيل، بموجب القانون الدولي، أن ترسل سجينها إلى موطنه، وليس إلى الولايات المتحدة. الواضح أن تسليم أليكسي بوركوف «خيّب أمل» موسكو التي كانت تترقب من الجانب الإسرائيلي المعاملة بالمثل، بعد مبادرات «حسن نية» في السنوات القليلة الماضية، من بينها «الحياد» المتساوق مع المصالح الأمنية الإسرائيلية، في سياق الهجمات ضد حلفاء موسكو في سوريا. ومن ناحية تل أبيب، كان خيار تسليم الهاكر الروسي للأميركيين أمراً لا مفرّ منه، ليس بمعنى الإجبار، بل نتيجة طبيعية للحلف الراسخ بين تل أبيب وواشنطن، رغم أن الطلب الروسي بالتسليم جاء على خلفية التعليل الاستراتيجي كما ورد آنذاك في الإعلام العبري. هكذا، جاء التسليم نتيجة مفاضلة بين الحليف الأميركي، الذي لا يمكن ويمنع رفض طلباته الجدّية من إسرائيل، وبين الصديق الروسي الذي تحكم العلاقة معه، أيضاً إسرائيلياً، معادلة الجدوى والثمن و«التجارة السياسية المتبادلة».
في عوامل أخرى بينية، برزت الاتفاقية القنصلية لعام 2008، التي ألغت تأشيرات الدخول بين الجانبين، وقد جاءت أسبابها سياسية بالدرجة الأولى، وضمن مسعى متبادل لتعزيز العلاقات على خلفية أكثر من موجب سياسي وأمني آنذاك. مرور ما يزيد على عقد على توقيع الاتفاقية كان كفيلاً بتغيير كثير من المعطيات التي من بينها دفع الروس لدخول إسرائيل بلا تأشيرات، ثم الامتناع عن المغادرة، الأمر الذي أدى إلى «تشويش» اقتصادي في سوق العمل الإسرائيلي، خاصة أن «الجالية اليهودية الروسية» كبيرة جداً، وبإمكانها استيعاب مهاجرين غير قانونيين روس، من غير اليهود، تصعب ملاحقتهم. الزيادة في عدد الروس غير القانونيين في إسرائيل استتبعت من تل أبيب إجراءات استباقية ووقائية في محاولة لمنع دخول الراغبين في الاستقرار فيها، ضمن محدّدات ومؤشرات مسبقة، الأمر الذي يفسر عمليات منع دخول، وكذلك طرد مواطنين روس بالآلاف، وهو موضع شكاية روسية في الأشهر الأخيرة.
رغم ما ورد هنا من أسباب، وأخرى لا يسعها المقام، يمكن التشديد على الآتي:
ــــ يبعد أن يترقّى التوتر الحالي بين إسرائيل وروسيا ليتحوّل إلى أزمة دبلوماسية من شأنها أن تؤثّر سلباً في أكثر من اتجاه، سياسي واقتصادي وأمني. حجم وإلحاحية المطالب الكامنة وراء التوتر، من الجانبين، لا يسمحان ولا يفرضان انتقال التوتر إلى أزمة.
ــــ من ناحية موسكو، تتجه الإرادة نحو «التأزيم القنصلي» للتوصل إلى تسوية ما تحقق أقصى فائدة مقابل أقل خسائر ممكنة. فإن كانت روسيا تتفهّم الارتباط الوثيق بين تل أبيب وحليفتها واشنطن، فإنها تتوقع ألا تستسهل تجاوز المصلحة الاستراتيجية، كما حدث مع الهاكر الروسي، من دون أن تجري حسابات جدية قبل اتخاذ قراراتها، بما يؤثر سلباً أو إيجاباً في المصلحة الروسية.
ــــ تعمل موسكو أيضاً على منع إسرائيل، عبر اتفاقات مكتوبة أو غير مكتوبة، من معاملة الوافدين الروس مهما كان وضعهم القانوني، بما يشبه التعامل مع مواطني أي دولة أخرى يرون في سوق العمل الإسرائيلي مطلباً لهم لتحسين وضعهم المعيشي، كما الحال مع مواطني القارة الأفريقية، الأمر الذي ستظهر نتيجته تباعاً، كما ورد من تسريبات اللقاء السنوي المعنيّ بالبحث في الجانب القنصلي بين الجانبين الخميس الماضي.
ــــ من ناحية إسرائيل تبدو الأمور أكثر تعقيداً. فهي معنيّة بأن تُبقي على الصداقة الروسية قائمة، وهي حاجة استراتيجية كبرى يتعذّر إخفاؤها، أي من دون التسبب في تغيير التموضع الروسي منها، وتحديداً إزاء قضايا المنطقة والتهديدات الكامنة فيها، لكنها ترفض، وهي وتتوقع من الآخرين بما يشمل الروس، ألا يبنوا على واقع أي مستوى من مستويات الصداقة مع إسرائيل، ما يمكّنهم من دفع تل أبيب كي تتجاوز مصلحة الحليف الأميركي. هذه واحدة من أهم، بل ربما وحدها، ما دفع تل أبيب إلى مفاضلة تسليم الهاكر الروسي للأميركيين، رغم إدراكها المسبق حجم المعضلة الناتجة عن ذلك، وتأثيرها في العلاقات مع روسيا.
موسكو أصرّت لضرورات تتعلق بأمنها على تسليم بوركوف لها


ـــ في المقام الثاني، إسرائيل معنيّة بألا تُسبب لاقتصادها ولغالبيتها السكانية اليهودية ضرراً إستراتيجياً عبر السماح للروس بالتوافد إليها بلا ضوابط، أي أنها معنيّة بأن تمنع الإقامة غير القانونية للروس، تماماً كما كانت تفعل حتى الآن، سواء عبر الطرد المدروس أم منع الدخول إليها لمن يُشك مسبقًا في أنه ينوي الإقامة غير القانونية.
مع ذلك، لا يبدو أن الأمور متجهة إلى تأزم، بل ربما إلى مستوى ما من التوتر يسمح أو يدفع الجانبين إلى تسوية أكثر ملاءمة لمصالح كل منهما، ومن بينها التخفيف من حالات طرد ومنع دخول الروس، والتريّث طويلاً قبل اتخاذ إجراءات ترى موسكو أنها تؤثر سلباً فيها وبمستويات استراتيجية كما حال الهاكر الروسي، وكذلك الحد من حديث المسؤولين الإسرائيليين «المُذل والمتبجح»، وتحديداً من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، كأن موسكو أداة طيّعة في يده يدفعها إن شاء إلى قرارات بإطلاق سراح سجين إسرائيلي من هنا أو من هناك... كيفما اتفق. إذاً، لن يسمح الجانبان للتوتر بأن يتحوّل إلى أزمة، وهذه هي النتيجة الوحيدة الأكثر تأكيداً في سياق تقدير ما يمكن أن يعقب التوتر بمستوياته الحالية.