بدت واشنطن العاصمة، ومعها وسائل إعلامها ومراكز أبحاثها، في حالة استنفار قصوى. ما الذي جرى؟ وقعُ الخبر كان مُدوّياً في المركز السياسي لأميركا: قرّر دونالد ترامب أن «يمنع» حرباً وشيكة، وأن يجعل العالم الذي نعيش فيه «مكاناً آمناً». أمْرُ عمليات فجر الجمعة الثالث من الشهر الأوّل من العام الجديد: «اقتلوا قاسم سليماني». ساعات قليلة بعد الضربة الأميركية في بغداد حتى تبنّى «البنتاغون» العملية، بأمرٍ من القائد الأعلى للقوات المسلحة. تَعَمُّد العلانية ليس عادةً من عادات الأميركيين، وهو يفتح الباب على أسئلة كثيرة: هل أقدمت الإدارة الأميركية على خطوة بهذا الحجم، مع علمها المُسبق بتداعياتها المحتملة؟ أم أنها، كما قال السناتور الجمهوري ماركو روبيو، تعرف أن طهران ستردّ «بما يحفظ ماء وجهها… ليس أكثر».«تحرَّكنا الليلة الماضية لمنع حرب، لا لإشعالها»... «الجنرال كان يخطّط لهجمات وشيكة ضد الأميركيين». في تصريحاته للصحافيين بعد انقضاء منتصف نهار أمس، وضع ترامب عملية الاغتيال في إطار ما يُعرف بـ«التهديد الوشيك». قبل ذلك، كانت الأسئلة تدور في فلك الحيثيات التي حملت الرئيس على اتخاذ خطوة بهذا الوزن من دون إخطار الكونغرس. أعضاء الكونغرس، خصوصاً الديمقراطيين، بدوا غاضبين جداً. رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، إليوت إنغل، رأى أن «تنفيذ عمل بمثل هذه الخطورة من دون إشراك الكونغرس ينطوي على مشاكل قانونية خطرة، ويشكّل إهانة لصلاحيات الكونغرس»، وأن العملية الأميركية تشكّل «تصعيداً خطيراً لنزاعنا مع إيران مع عواقب لا يمكن التكهّن بها». مِن الناحية القانونية، يحقّ لترامب استخدام القوة العسكرية في الحالات الطارئة التي تستوجب السرعة في القرار لدرء أخطار «على وشك الوقوع». في هذا الاتجاه، جاء بيان «البنتاغون» وكلّ التصريحات التي تلته: «سليماني كان وراء هجمات على القواعد الأميركية خلال الأشهر الماضية، ومن بينها هجوم كركوك الذي أدى إلى مقتل متعاقد أميركي»، و«وافق» على اقتحام السفارة الأميركية في بغداد.
تقول واشنطن إنها راقبت منذ أشهر تحركات الجنرال سليماني عن قرب، وكان في مقدورها استهدافه قبل عملية الجمعة. بحسب وزير الخارجية، مايك بومبيو، فإن الجنرال كان يحضّر لما وصفه بـ«عمل كبير» يهدِّد «أرواح مئات الأميركيين». لكن الوزير امتنع في مقابلتين أجرتهما معه شبكتا «فوكس نيوز» و«سي إن إن» عن تفنيد تفاصيل «التهديد» المزعوم، مكتفياً بالقول: «كنا نعلم أنه وشيك»، عبر الركون إلى «التقييم الاستخباراتي الذي وجّه عملية اتخاذ قرارنا»، ليعود لاحقاً ويؤكد أن بلاده ملتزمة «خفض التصعيد».
بإزاحتها سليماني من المشهد، تكون إدارة دونالد ترامب قد عزّزت شوكتها في خاصرة المنطقة، وأقدمت على فعلِ ما عزفت عنه الإدارتان السابقتان (بوش وأوباما). يعني ذلك أن قراراً مؤجلاً اتُّخذ في ذروة التصعيد الإقليمي، ولكن لماذا الآن؟ بالنسبة إلى الرئيس الأميركي، فإن قائد «قوة القدس» كان يجب أن «يُقتل قبل سنوات عديدة»، بسبب دوره في «قتل أو إصابة آلاف الأميركيين بجروح بالغة على فترة طويلة، وكان يخطط لقتل عدد أكبر بكثير... لكنه سقط!». لاحقاً في المساء، بدأ ترامب بإعادة نشر تغريدات معجبيه. إحداها كانت لافتة بشكل استثنائي. وعلى طريقة تقديم معلومات مجانية، تقول التغريدة: «هل كنت تعلم: خطّط سليماني لهجمات ليبيا عام 2012، لأنه كان على علم مسبق بالسلاح المرسَل من ملحق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إلى المتمردين السوريين»، ليخلص كاتبها إلى أن الجنرال الشهيد يتحمّل «مسؤولية» ما جرى في بنغازي (قتل أربعة أميركيين من بينهم السفير). جرياً على عادته، ذكّر الرئيس الأميركي العراقيين بأن بلاده دفعت لهم «ملايين الدولارات في سنة واحدة، وتفعل ذلك منذ سنوات عديدة»، معتبراً أن ذلك «يأتي على رأس أمور أخرى فعلناها من أجلهم».

حربٌ «ديموقراطية»
مزيدٌ من الاستقطاب أرخى بثقله على أميركا بعد قرار رئيسها الذهاب بعيداً في التصعيد ضدّ إيران. يؤشّر على ذلك الانقسام الحادّ في المواقف بين الحزبين الرئيسين؛ إذ أعرب معارضو الرئيس عن خشيتهم من التداعيات الخطيرة لعملية الاغتيال ومآلاتها، بينما سارع المشرعون الجمهوريون إلى التعبير عن دعمهم القوي لخطوة ترامب. في هذا الإطار، كتب السناتور الجمهوري النافذ، ليندسي غراهام: «أنظر بتقدير إلى العمل الشجاع للرئيس دونالد ترامب ضدّ العدوان الإيراني»، مع الإشارة إلى أن بلاده قتلت «أقوى رجل في طهران». على المنوال ذاته، دافع السناتور الجمهوري، ماركو روبيو، عن قرار ترامب، مبرراً دفاعه بأن سليماني كان «يخطّط لانقلاب في العراق»، «بتوجيهات من المرشد الأعلى»، و«يسعى إلى السيطرة على العراق واتّخاذه منصة للهجوم على الولايات المتحدة».
مزيدٌ من الاستقطاب أرخى بثقله على أميركا بعد قرار رئيسها الذهاب بعيداً في التصعيد ضدّ إيران

وأشار إلى أن من الخيال الاعتقاد بأن الرئيس «اتّخذ إجراءات متهورة ومندفعة من دون تخطيط أو توقّع لما سيحدث بعد ذلك»، إذ تشير الحقيقة إلى خلاف ذلك، خصوصاً أن ترامب «التزم بالخطوط الحمراء التي وضعها، بعد استنفاد جميع الخيارات الأخرى، وإدراكاً منه بأن إيران سترد الآن، وإن كان لحفظ ماء وجهها ليس إلا». أما عن ردود الفعل الإيرانية المحتملة، فتوقّع أن تعمل الأخيرة على «تنشيط خطط الطوارئ لعناصر حزب الله وقوة القدس في جميع أنحاء العالم»، و«الدفع بأسلحة متقدمة إلى الجماعات غير الشيعية (أي طالبان) لشنّ هجمات»، إضافة إلى عمليات قد يشنها حزب الله ضد إسرائيل. ووسط تشكيك وتخوُّف واضحين، قالت رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إن اغتيال سليماني يهدّد بإحداث «تصعيد خطير للعنف»، معتبرة أن «أميركا والعالم لا يمكنهما تحمّل تصعيد في التوتر يصل إلى درجة اللاعودة». كما انتقد مرشحون إلى الرئاسة الأميركية الهجوم؛ إذ قال جو بايدن: «ألقى ترامب للتوّ إصبع ديناميت في برميل بارود، وعليه أن يقدِّم توضيحات للشعب الأميركي»، متحدثاً عن «تصعيد هائل في منطقة خطيرة أساساً». وأضاف «من المؤكد أن إيران ستردّ. ربما نكون على حافة نزاع كبير في الشرق الأوسط». وأكد بيرني ساندرز، بدوره، أن «تصعيد ترامب خطير، ويقرّبنا أكثر من حرب كارثية أخرى في الشرق الأوسط»، وأضاف: «ترامب وعد بإنهاء الحروب المزمنة، لكن عمله هذا يضعنا على طريق حرب أخرى».