طهران | لا تزال إيران في مرحلة الحداد. وفي حين تشخص الأنظار نحو الردّ الذي بدأ سياسياً مع التخلّي عن التزامات الاتفاق النووي، تودّع البلاد اليوم قاسم سليماني إلى مثواه الأخير في كرمان بعد تشييع مهيب في العاصمة طهران. تشييع بدأ التحضير الشعبي له، وستحضره قيادات الصف الأول لقوى المقاومة، وسط توقعات بأن يكون مشهداً استثنائياً يعيد إلى الأذهان وداع مؤسس الجمهورية الإمام الخميني. أكد ذلك أمس الحضور الشعبي الضخم في الأهواز في استقبال جثامين سليماني ورفاقه آتية من العراق، وبعدها استقبال ممثال في مدينة مشهد، قبل أن تصل الجثامين الليلة الماضية إلى طهران. وبينما يكشف الغضب والحزن العارمان ثقل سليماني ورمزيته لدى مختلف الشرائح الثقافية والسياسية، يُعدّ التكريم الكبير أشبه باستفتاء ذي مغزى سياسي يسهم في تماسك إيراني داخلي في مرحلة الردّ التي تبدأ من مساء اليوم.إيران، مجتمعةً، تودّع اليوم الجنرال قاسم سليماني، الذي لا يبدو أن دوره في البلاد سيقتصر على حياته. ففي خضمّ الجدل السياسي بعد رفع أسعار البنزين وتزايد الانتقادات للأداء الاقتصادي لحكومة حسن روحاني، وكذلك الخلاف في وجهات النظر حول الانضمام إلى معاهدة «مجموعة العمل المالي»، جاء اغتيال الجنرال سليماني ليغيّر مناخاً عاماً، غاية في السلبية، ويرصّ الصفوف ويوحّدها.
كان قاسم سليماني شخصية محبوبة وذات قاعدة شعبية. شعبيةٌ وصلت حدّ أن بعض المعارضين للنظام كانوا يحبونه بسبب دوره في الدفاع عن البلاد في مواجهة الإرهاب ويعتبرونه «بطلاً قومياً». وقد حاز على ثناء الشخصيات السياسية المختلفة، من الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، إلى الرئيس الأسبق محمد خاتمي، مروراً بمهدي كروبي، أحد قادة الاحتجاجات على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2009. شعبياً، جماهيريته تكتسح مختلف الشرائح بتوجهاتها وانتماءاتها الفكرية والثقافية كافة. بعد الإعلان عن نبأ استشهاده، انتشرت صوره على صفحات العديد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في «إنستغرام» و«تويتر»، وأُطلقت هشتاغات «#انتقام_سخت» (الانتقام العسير) و«#سلیمانی» و«#همه_ما_سلیمانی_هستیم» (كلنا سلیماني). ونشر الكثير من المشاهير صور سليماني متحدّثين عنه بوصفه بطلاً قومياً، وحيّوا ذكرى الرجل الذي تحوّل إلى وجه محبوب وبطل بين مختلف أطياف المجتمع منذ بدأ دوره في مواجهة كابوس «داعش». كما أن تجنبه الخوض في الخلافات والتجاذبات السياسية الداخلية ساهم كثيراً في تحويله إلى شخصية وطنية ذات قاعدة شعبية عريضة.
استشهاد قاسم سليماني غيّر إلى حدّ كبير من الأجواء الداخلية في إيران، لاسيما وأن الاحتقانات الناتجة عن الاحتجاجات الأخيرة على زيادة أسعار البنزين كانت قد ألقت بظلال ثقيلة على المناخ العام، لكن نبأ الاغتيال زاد من التماسك والانسجام الداخلي. وفي الظروف التي تواجه فيها إيران ضغوطاً واسعة ناجمة عن العقوبات الأمريكية، يعدّ المراقبون زيادة اللحمة الوطنية والتوجهات المناهضة للولايات المتحدة عاملاً مساعداً في إعادة تأهيل العلاقة بين الحكومة والشعب.
نقاش حول طبيعة الرد
من مجمل التصريحات والمواقف الرسمية، يتضح أن الردّ الحتمي سيكون بالمبدأ محكوماً بمحدّد «الثأر لا الحرب». إذ قال رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، مجتبى ذوالنوري، إن «هدفنا هو الانتقام البحت ولا ننوي الدخول في حرب». كما قال المتحدث باسم هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة أبو الفضل شكاري: «على الأميركيين أن يعلموا بأن إيران لن تتسرع حتماً في الرد. إننا سنفكر ونخطط، لكي نردّ بصبر وتأنّ وروية على هذا العمل الإرهابي في المستقبل وبطريقة مزلزلة وقوية».
في القراءات السياسية، تباينت الرؤى حول طبيعة الردّ. وبينما تحدثت وسائل إعلام المحافظين، المعارضة للحكومة، عن «انتقام عسير» وطالبت بـ«الردّ بالمثل والردّ الحازم»، ندّدت وسائل الإعلام الإصلاحية بالعملية الأميركية وحذرت من تداعيات التصعيد مع الولايات المتحدة، داعية إلى «ضبط النفس» والحدّ من إشعال فتيل الأزمة.
محاربة «داعش» وتجنبه الخلافات السياسية أسهما في تحويله إلى رمز شعبي


وقال المدير المسؤول لصحيفة «كيهان»، حسين شريعتمداري، في مقال بعنوان «ثمّة عشرون مليون قاسم جاهزون»، إن «أميركا وحلفاءها الإقليميين يجلسون في غرفة من زجاج، وهم معرّضون للضربة من كلّ جهة، وإن جميع التحضيرات والأرضيات جاهزة للثأر بقوة من أميركا». وأضاف: «إن الثأر لدماء الفريق قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وسائر شهداء فجر الجمعة لا يجب أن يقتصر على مرة واحدة ومرتين وعدة مرات، لأن العدو لم يحصر جرائمه بمرة واحدة ومرتين وعدة مرات». ووجّه شريعتمداري في الوقت ذاته انتقاداً لبيان المجلس الأعلى للأمن القومي بسبب استخدام عبارة «الزمان والمكان المناسبين» في ما يخص الرد، لأنه يرى أن «هذه الجملة لا تحمل في العرف الدبلوماسي طابع الحزم والحسم».
وقال عضو حزب «اتحاد الشعب الإيراني» الإصلاحي، علي شكوري راد، في مقال نشر في صحيفة «اعتماد»: «إن لم يتمّ إنفاق قيمة استشهاد قاسم سليماني في الانتقام البحت، فإنها يمكن أن تساهم في إرساء الأمن والسلام والرفاهية للبلاد والشعب. إن الفريق سليماني هو رأسمال رمزي للشعب والبلاد، ولا يجب هدره في الثأر من منطلق العصبية والغضب». وذهب شكوري راد إلى أن «الانتقام هو أبسط ردة فعل وأكثرها بداهة على هذه الجريمة، وربما لا يمكن رفضه أو تخطئته، لكن الوعد به يمكن أن يكون بأداء وتوجه مختلفين، بمعنى أنه يجب، بمنأى عن ضجيج المتطرفين وتشجيعهم على الإسراع في ردة الفعل، التأكيد بضبط للنفس على الوعد. إن هذا الوعد سيكون مقلقاً ومستنزفاً للأميركيين وسيبقيهم في موضع الانفعال».