تميّز العدو الإسرائيلي في قراءته خصمه المركزي في الشمال، أي حزب الله، في كونه تعلّم خلال ثلاثة عقود أن المسألة لا تتعلق فقط بالحسابات الرياضية. لا يعني ذلك أن المغامرة لا يمكن أن تحل مكان الفعل المطلوب. لكنه يعني أن طبيعة المعركة الوجودية بين خصمين لا مجال لحل بينهما، تفترض لحظات من الحيرة عند الحاجة الى اتخاذ قرار كبير. وأهم ما تعرفه إسرائيل أن اليقين في معرفة خطوات العدو هو العنصر الحاسم في خوض الحرب من عدمها.العلوم الإنسانية تؤكد لنا، مرة بعد مرة، أن رأس المال القائم على السلعة هو العمود الفقري لكل القوى الإمبريالية في العالم. وأميركا اليوم، كما منذ زمن بعيد، ومعها أوروبا والدول الصناعية الكبرى، تتصرف على هذا الأساس. وليس من باب مناكفة أحد ممّن قرروا الخروج من المعركة، منهزمين أو متعبين أو لامبالين، فإن قاعدة التوسع من خلال الحروب والعنف لا تزال أساس كل السياسات الداخلية والخارجية لهذا الغرب. بهذا المعنى، تبقى إسرائيل واحدة من أدوات هذا العالم المتوحش، الذي لا يعرف غير العنف وسيلة لمضاعفة قوة رأسماله أو إضعاف قوة رأسمال خصمه.
لكن منطق التخادم، بين هذه القوى، يسمح لإسرائيل، مثلاً، بأن تشرح لأميركا، ولمن يهمه الأمر، كيفية التعامل مع العقل الذي يتحكم بخصمهم الأكثر إيلاماً، أي إيران والفصائل الرئيسية في محور المقاومة. وهذا الدرس ضروري، حتى ولو كان البعض يفترض أن مصلحة إسرائيل تتحقّق أحياناً عبر سياسات صادرة عن «جهل أميركا والغرب» في فهم إيران وحلفائها.
في حالتنا، اليوم، تملك إسرائيل كل عناصر الحافزية، السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية لشنّ أكبر حرب في تاريخها ضد عدوها الشمالي. لكن الشرط اللازم لضمان نجاح هذه الحرب هو عنصر اليقين إزاء ما قد يحصل من ردود فعل من الجانب الآخر. في هذه الحالة، تكمن مشكلة العدو في حالة اللايقين إزاء ما يمكن أن يحصل لو فكرت هي في شن الحرب علينا، علماً بأنه في حالات كثيرة، لن يتوقف العدو عند الحساب الرياضي فقط ليتخذ القرار بالحرب. لكن تبقى مشكلة اللايقين من دون علاج.
لنقل إن ما قامت به قوات الاحتلال الأميركي من عملية اغتيال واضحة ضد القائد العسكري العام لمحور المقاومة الشهيد قاسم سليماني قد وضع الحسابات الإسرائيلية جانباً. هذا لا يعني أن إسرائيل غير معنية. لكن سياق التطورات لم يعد مرتبطاً بما تقدم عليه إسرائيل. بل على العكس، فإن تل أبيب تواجه اليوم أصعب وضع في تاريخها. تقف اليوم، مثلها مثل بقية حلفاء أميركا في المنطقة، تنتظر الخطوة التالية. وليس هذا فقط، بل تنتظر الإشارة الأميركية حتى تبادر أو تبقى في حالة انكفاء عن الحدث. وإسرائيل هنا، استناداً الى خبرتها في علم اليقين، تعرف، كما الولايات المتحدة، أن المتيقن من المواجهة القائمة الآن هو أمران فقط: اغتيال العدو الأميركي سليماني في بغداد، والرد الإيراني الحتمي على هذه الجريمة. هذا يقين أكيد. لكن، من يعرف كيف تستمر المواجهة؟
نحن أمام لاعبي شطرنج محترفين. قام الأول بخطوة أولى موجعة. لكنه ينتظر خطوة الخصم. صحيح أن المنطق يقول إن أميركا يجب أن تكون مستعدة لخطوة تالية، لكنها، تحتاج، أولاً، الى معرفة طبيعة الرد الإيراني. وعند هذه النقطة يقف اللاعبان، ويتحركان بعيداً عن الطاولة، حيث يغيب اليقين، وحيث لا تبقى إلا الأسئلة الكبرى.
تل أبيب تواجه اليوم أصعب وضع في تاريخها. تقف اليوم، مثلها مثل بقية حلفاء أميركا في المنطقة، تنتظر الخطوة التالية


عملياً، منذ ما قبل انتهاء مراسم تشييع شهداء الجريمة الكبرى في كل من إيران والعراق، أقدمت قوات الاحتلال الأميركي على خطوات عملانية كبيرة. أخلت قواعد عسكرية كاملة في العراق، وطلبت من جنودها الانتشار بعيداً عن قواعد أخرى داخله وفي الدول العربية المجاورة. استحضرت على عجل منظومات متطورة وعديدة من الدفاع الجوي المخصصة لمواجهة الصواريخ الباليستية القصيرة والمتوسطة المدى. نشرت منظومة رادارات لتغطية كل سواحل الخليج العربي وبحر العرب والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. أطلقت أكبر عملية تعقب تقني في تاريخها على مساحة المنطقة بأكملها. استنفرت كل الأجهزة الأمنية العميلة لها في كل المنطقة للعمل من دون توقف على رصد الإشارات ومتابعة حلفاء إيران، من العراق الى سوريا الى لبنان وفلسطين واليمن، حتى داخل دول خليجية. وطلبت من حلفاء لها في المنطقة التحرك صوب إيران لأجل تهدئتها وتهديدها في الوقت نفسه. وهي تعمل، من دون توقف، على صياغة آلية تسمح لقواتها في العراق بالاختفاء من الشوارع والمدن والابتعاد عن المناطق ذات الغالبية الشيعية، وطلبت من عناصرها الأمنية وطواقمها الدبلوماسية وغير الدبلوماسية في معظم دول المنطقة، التصرف وفق خطة طوارئ لإخلاء فوري أو التجمع في أماكن محددة. وطلبت تعزيز الحماية لجميع مؤسساتها ومصالحها في هذه الدول. ونقلت الى المنطقة قوات غير معلنة بقصد القيام بعمل عسكري إنقاذي في حال تعرض قواتها لاي هجوم. وهي تسعى بوتيرة لا تترك مجالاً للصدفة. حتى إنها قد تلجأ الى أخطاء دموية جديدة تحت عنوان إجراءات وقائية اتخذتها بحجة الخشية من تعرضها لضربات وشيكة.
حسناً، الى متى سيستمر هذا العمل. هل نحن أمام عقاب أولي اسمه «الوقوف على رجل ونص» في كل المنطقة، كما فعلت إسرائيل لأيام طويلة على طول حدودها مع لبنان بانتظار رد المقاومة على قتل مقاومين في سوريا؟ أم نحن أمام عملية إخلاء حقيقية لمناطق كثيرة من العراق وسوريا من قبل قوات الاحتلال تحت عنوان «سحب الذريعة» من يد قوى المقاومة؟ أم نحن أمام استراتيجية التراجع صوب القواعد التقليدية في حضن ملوك وأمراء القهر من الذين وجب كنسهم مع قوات الاحتلال؟ ما العمل؟
في هذه الحالة، قد يكون من الأفضل لقادة أميركا العودة الى إسرائيل، وسؤالها عن كيفية التصرف في مواجهة «اللايقين»...
صحيح أن الأميركيين يعشقون النسر. يرون فيه القوة والسموّ، ونسرهم غير نسرنا نحن، نسرنا الذي تروى حكايته في أعلى السماء، وهو لم يكن يوماً مهيض الجناح كبعوض تتخيّل نفسها طيراً، نسرنا على حقيقته، وكما روى الأقدمون، يسمع صوت العاصفة قبل وصولها، لا يهرب منها، وعندما يصطدم بها، يفرد جناحيه ويترك للريح أن ترفعه الى أعلى منها. ويرى من فوق شدتها، لكنه يستمر ليحلّق الى الأعلى منها، حتى إذا ما هدأت الريح من حوله، وسّع حدقتَيه نحو الأسفل، مدركاً يقينه، خلافاً لفريسته التي لا تخفيها جدر ولا رمول ولا رياح... وعندما ينقضّ نسرنا، لا بقية تروى للحكاية!
المتيقن المفترض ان يعرفه الجميع من اهل المقاومة وعشاقها والمؤمنين بها والمراهنين عليها، هو ان الرد على جريمة العدو الاميركي، اوله واخره، كنس كل الوجود الاميركي في بلادنا. والحديث هنا لا يتعلق بعملية بحد ذاتها مهما كانت واضحة وقاسية. الرد الايراني هو خطوة مباشرة، لكن الرد الاتي في سياق لا تقف ايران خارجه، هو رد مفتوح وله زمنه غير القصير. وهدفه الوحيد، هو كنس كل الوجود الاميركي في منطقتنا... وعلى ما انشد محبي اميركا في كرنفالات المراهقين فان كل الوجود يعني كله!