لن ينجح ائتلاف القوى الإقليمية المذعورة من تراجع قوة حاميها الأميركي وهيبته في تصوير وقائع المواجهة الإيرانية - الأميركية في الأيام الماضية على عكس حقيقتها. السردية التي تقدّمها هذه القوى تنطلق من عدم مقتل جنود أميركيين خلال ردّ إيران الصاروخي على اغتيال أحد أبرز قادتها العسكريين، الفريق الشهيد قاسم سليماني، لاعتبار هذا الردّ «ضعيفاً» أو حتى «متفقاً عليه» عند بعض المحلّلين الأفذاذ. قرار إيران بالردّ العلني عبر قصف قاعدتين أميركيتين في العراق لا يعني الشيء الكثير برأي أنصار هذه القوى. سؤال بسيط برسم جميع هؤلاء: هل يذكرون الذريعة التي قدّمتها الولايات المتحدة لتبرير شنّها الحرب المروّعة على فيتنام؟ أظهر تقرير لوكالة الأمن الوطني الأميركية تمّ الكشف عنه سنة 2005 أن هذه الذريعة، أي قيام زوارق حربية فيتنامية بإطلاق النار على مدمّرتين أميركيتين، كانت مختلقة تماماً، وأن الغاية منها كانت تسهيل تمرير قرار في الكونغرس يمنح الرئيس آنذاك، ليندون جونسون، الصلاحيات الكاملة لإعلان الحرب على فيتنام. إذا لم يذكروا فيتنام، فهم على الأقلّ يذكرون غزو العراق عام 2003، وكيف سوّغته إدارة بوش الابن بحجج كاذبة عن امتلاك النظام العراقي أسلحة الدمار الشامل، وعن ارتباطه بـ«القاعدة» وتورّطه في عمليات الحادي عشر من أيلول 2001. ربما لم يسمعوا أيضاً بالذريعة المضحكة التي أوردتها واشنطن لاجتياح جزيرة غرانادا عام 1983. المهم هو أننا، حتى ماضٍ قريب، كنا أمام قوة أمبراطورية عاتية تخترع الذرائع والحجج للعدوان على دول وشعوب في أنحاء مختلفة من جنوب الكوكب، لكنها اليوم أصبحت تقبل أن تُقصف قواعدها العسكرية من قِبَل قوة إقليمية متوسّطة كإيران، من دون أن تردّ، نتيجة عدم سقوط قتلى في صفوف جنودها. ألا يشكل هذا الأمر ضربة قوية لهيبة الولايات المتحدة وتشجيعاً لقوى دولية أو إقليمية أخرى، كروسيا والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا، على تحدّيها والتجرؤ عليها؟ ألا يمثل أولاً وأساساً تحفيزاً للعراقيين والسوريين والأفغان، وغيرهم من الشعوب التي تعاني من الاحتلال أو الهيمنة الأميركية، على تصعيد جميع أشكال النضال ضدّهما؟ الأكيد على الأقلّ هو أن نظرة جميع الأطراف المذكورين إلى الولايات المتحدة لن تكون بعد الردّ الإيراني كما كانت قبله.
حتى لو سعت الولايات المتحدة إلى إثارة الفتن فإنها لن تمنع العمليات ضدّ جيشها المحتل

كيف نجح «حزب الحرب» المحيط بترامب في إقناعه بضرورة اغتيال الفريق الشهيد قاسم سليماني، على الرغم من علم أقطابه بخشية الرئيس الأميركي من الإقدام على أيّ خطوة قد تُسبّب حرباً مرتفعة الأكلاف مع إيران، تهدّد فرصه في الفوز برئاسة ثانية؟ الفكرة المركزية التي طرحها هؤلاء على ترامب هي ضرورة استعادة الولايات المتحدة لهيبتها بعد أن تعرّضت للاهتزاز نتيجة لسلسلة من العمليات قامت بها إيران أو اتُّهمت بالمسؤولية عنها، كضرب عدد من ناقلات النفط في الخليج أو قصف منشأتَي «أرامكو» في السعودية أو إسقاط طائرة التجسّس المسيّرة الأميركية. لكن شرط استعادة الهيبة لا يتمثّل فقط في توجيه ضربة مؤلمة لإيران، بل في ردعها عن المباشرة بردّ عليها يشكل تحدّياً جديداً للولايات المتحدة وتحفيزاً لأطراف محور المقاومة الآخرين على شنّ هجمات ضدها. كان لافتاً، بعد عملية الاغتيال، تهديد الرئيس الأميركي لإيران بتوجيه ضربات مدمّرة لها في حال مهاجمتها لأهداف أميركية، لكن طهران لم تتردّد في الردّ، فيما توعّدت فصائل محور المقاومة، بدورها، العدو الأميركي، بأنها سترفع من مستوى مواجهتها معه.
ترامب مدرك لدقة الموقف الذي يجد نفسه فيه: 11 شهراً تفصله عن الانتخابات الرئاسية، وإذا استطاعت قوى المقاومة العراقية تصعيد جميع أشكال النضال الشعبي، السلمي والمسلّح، ضدّ القوات الأميركية التي فقدت المبرّرات الشرعية الشكلية لوجودها، بعد تصويت البرلمان على قرار يدعو إلى انسحابها من بلده، فإن مزاج قطاع لا يستهان به من كتلته الانتخابية سينقلب ضده. مشاهد عشرات آلاف العراقيين يتظاهرون يومياً ضدّ السفارة والقواعد الأميركية، وعمليات تنظيمات المقاومة ضدّ جيش الاحتلال، كفيلة في فترة قصيرة نسبياً بحمل هذا القطاع، وقطاعات أخرى من الشعب الأميركي معارضة أساساً لترامب، على رفع الصوت ضدّ بقاء الجيش في العراق، ودفع خصومه السياسيين إلى استغلال هذا التذمّر ضدّه وتسعيره إلى أقصى الحدود. الخيارات المتاحة أمام ترامب، في حال رجحان مثل هذا السيناريو، هي إما الانسحاب من العراق أو الدخول في حرب مفتوحة مع فصائل المقاومة في داخل هذا البلد، مع احتمال شنّ هجمات أخرى ضدّ إيران بتحريض من «حزب الحرب» الذي سيتهمها بالمسؤولية عن عمليات المقاومة. الخيار الأول هو الخيار الأكثر انسجاماً مع أولويات ترامب الانتخابية وسعيه إلى الاحتفاظ بتأييد قسم معتبَر من ناخبيه. الخيار الثاني يعني الغرق مرة أخرى في نزاع دامٍ ومرتفع الكلفة مع الشعب العراقي وقواه الوطنية والاضطرار بالنتيجة، وتحت النار، إلى الخروج المذلّ من بلاد الرافدين. وحتى لو سعت الولايات المتحدة إلى إثارة الفتن والانقسامات الطائفية أو الإثنية في العراق، فإن هذا الأمر لن يمنع استمرار العمليات ضدّ جيشها المحتل. لا خيار أمامها سوى الانسحاب عاجلاً أو آجلاً، والأقلّ تكلفة بالنسبة إليها هو طبعاً عاجلاً، لكنها في الحالتين، ومع خروجها من العراق، ستكون قد فقدت الكثير من هيبتها على الصعيدين الإقليمي والعالمي.