أوروبا ليست مجرد «عملاق اقتصادي وقزم سياسي» كما درج بعض الخائبين من إمكانية تحوّلها إلى قطب دولي مستقل على القول، بل هي ما زالت مجرّد شريك ثانوي تابع للولايات المتحدة وسياساتها العدوانية في أكثر من بقعة من العالم.قرار الثلاثي الأوروبي، الفرنسي - الألماني -البريطاني، بتفعيل «آلية فض النزاع»، في الاتفاق النووي مع إيران، مثال جديد يضاف إلى العديد من الأمثلة الأخرى كدعم محاولة غوايدو الانقلابية في فنزويلا، وكذلك الانقلاب على الرئيس المنتخب إيفو موراليس في بوليفيا، والانسياق خلف فرضية «التهديد الصيني» التي تروّجها الولايات المتحدة. وعندما أراد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مثلاً، تسويغ بداية التقارب بين بلده وروسيا، أعلن أن بين أبرز دوافعه لذلك هو «منعها من الارتماء في أحضان الصين». هذا ما يفسّر تأكيده أمام الرئيس بوتين لمرّات عديدة أن روسيا «قوة أوروبية»، بعدما قامت السياسات الأوروبية لعقود طويلة على اعتبارها الخطر الأكبر. السعي لإبعاد روسيا عن الصين هدف أميركي - أوروبي مشترك، وماكرون في هذا الشأن يسير على هدى ترامب.
لا يعني هذا الكلام عدم وجود خلافات جدّية بين الأوروبيين والأميركيين حول المناخ أو حول العلاقات البينية الاقتصادية والتجارية أو توتّر فعلي من الإهانات المتكرّرة التي يوجّهها ترامب للقادة الأوروبيين وتهديداته المستمرة بالخروج من «الناتو» وسحب حمايته لـ«القارة القديمة». هذا التوتّر هو الخلفية الفعلية لكلام ماكرون عن «الموت الدماغي» لحلف «الناتو» ولتصريحات أكثر من مسؤول ألماني عن ضرورة التفكير في دفاع أوروبي مشترك ومستقل. لكن الأزمات الدولية، والأزمة الأميركية - الإيرانية دولية من الدرجة الأولى، تكشف المواقف والسياسات الحقيقية لجميع الأطراف المعنيين بها. ما تظهره الأزمة الأميركية - الإيرانية، وغيرها من الأزمات المذكورة سالفاً، هو أن الدول الأوروبية الرئيسية تسارع إلى الاصطفاف خلف الولايات المتحدة عند وقوع أيّ مواجهة بينها وبين قوى دولية أو إقليمية غير غربية، لأنها تعتبر أن أي هزيمة للأولى ستسرّع مسار ضمور نفوذ الغرب التاريخي وصعود دور هذه القوى. النخب الأوروبية الحاكمة، وقطاعات من مجتمعاتها، تفضل الشراكة مع حليف نزق ومختل كترامب لمحاولة الحفاظ على الهيمنة الغربية، على المغامرة بالقبول بالانتقال نحو عالم ما بعد الغرب، الذي يُكثر المسؤولون الروس والصينيون الحديث عنه، والذي يثير هلعاً لا يمكن إخفاؤه في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وغيرها من العواصم التي ما زالت تحن إلى الزمن الإمبراطوري الآفل.

مقاربة أوروبية منحازة للمواجهة الأميركية - الإيرانية
جميع التحليلات الجدّية لخلفيات المواجهة المحتدمة بين واشنطن وطهران، بما فيها تلك المقدّمة من قبل أعداء لإيران كدايفيد فروم مثلاً، ترُدّ أصلها إلى الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول «5 + 1» بمعزل عن الأسباب التي توردها لتبرير أو تفسير هذه الخطوة. استنكر الأوروبيون هذا الانسحاب عند حصوله، وحذّروا من تبعاته الخطرة، وأخذوا ينسّقون مواقفهم مع روسيا لمحاولة ثني الإدارة الأميركية عن قرارها. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سافر إلى واشنطن لإقناع الرئيس الأميركي بالعدول عن مثل هذا القرار، قبل أن يعلن عنه رسمياً، معتمداً على علاقته الخاصة الودّية مع ترامب في بداية عهده، على عكس بقية الزعماء الأوروبيين. غير أن مساعي ماكرون وغيره باءت جميعها بالفشل.
لا شك في أن للأوروبيين ولجميع الدول الأخرى المستوردة للنفط من الخليج، كالهند واليابان والصين، مصلحة أكيدة في الحفاظ على الاستقرار ليستمر تدفقه نحو موانئهم، وأن فك الاشتباك الأميركي - الإيراني، الذي أمل البعض أن يفضي إليه الاتفاق النووي، يعزز الاستقرار. ولا شك في أن الفرص التي يتيحها السوق الإيرانيّ الضخم هو عامل آخر أسال لعاب الشركات الأوروبية التي تنحسر حصتها في الأسواق العالمية مقارنة بتلك الأميركية أو الصينية. منطقياً، كان على البلدان الأوروبية معارضة القرار الأميركي المتناقض مع مصالحها المفترضة والتعاون مع الصين وروسيا، وجميع الأطراف الأخرى المتضرّرة منه، للضغط على الولايات المتحدة وحملها على التراجع عن الانسحاب.
لفهم الموقف الأوروبي الحالي الذي يبدو غير منطقي ومتناقض مع المصالح المشار إليها، ينبغي التذكير بحقيقة بديهية، وهي أن ما يحكم سياسة أي طرف، وتعريفه لمصالحه، هو موازين القوى. المصالح مفهوم مطاط ويعرّف وفقاً لموازين القوى. عندما كانت فرنسا، أو بريطانيا، قوة عظمى، أيام «المجد الاستعماري»، كانت دائرة مصالحها ونفوذها تضم مناطق واسعة من آسيا وأفريقيا، لكنها راهناً قد تكون محصورة داخل حدودها. لا تملك الدول الأوروبية الارادة السياسية أو القدرة على مواجهة الولايات المتحدة طالما بقيت متمسّكة بضرورة تثبيت دعائم الهيمنة الغربية في مواجهة «الآخرين» غير الغربيين. وفي هذه الحالة، تصبح مصلحتها هي التمسك بالشراكة مع الولايات المتحدة، ولو من موقع أدنى، لتستفيد مما ستنعم عليها به من مغانم وأرباح.
بدلاً من الضغط على الطرف الذي انسحب من الاتفاق، شرعت الدول الأوروبية في مهاجمة ومعاقبة الطرف الذي التزم به، أي إيران. واليوم، عندما تفعّل «آلية فض النزاع» في هذا الاتفاق، ما يعني إمكانية العودة في مرحلة قادمة إلى مجلس الأمن الدولي لفرض المزيد من العقوبات على إيران، فهي تشارك في الحرب الأميركية - الإسرائيلية الدائرة ضدها. لا يخفى على الدول الأوروبية أن المنطقة في حالة حرب انتقلت من مستوى منخفض التوتر إلى مستوى متوسّط، وهي اختارت أن تتخذ قرارها المشار إليه في هذا السياق. لن يجدي نفعاً أن يؤكد وزراء خارجية الثلاثي الأوروبي أنهم لا يشاركون في «الضغوط القصوى» لحفظ ماء وجه حكوماتهم وعدم الظهور بمظهر الأتباع. ما يثبته هذا التموضع الأوروبي، الذي يلي تموضعات أخرى مشابهة، هو أن الرهان على تمايز هذا الطرف عن الولايات المتحدة خاسر حتماً، وأن الخيار الأسلم هو في تعزيز الشراكة مع القوى الصاعدة غير الغربية، المنخرطة بدورها في مواجهة استراتيجية مع واشنطن.