بعد أشهر من النقاش الحادّ، وعلى الرغم من ضغوط إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وافق الاتحاد الأوروبي على دخول شركة «هواوي» إلى سوق الـ«5g» الأوروبي. بناء شبكة الـ«5g» يتطلّب تنظيم مناقصات لبيع تردّداتها لشركات الاتصالات، لكن دفاتر الشروط أثارت سجالاً مستمراً قبل أن تقرر بروكسيل السماح للعملاق الصيني، المتهم من دون أدلة بالتجسّس الصناعي من قِبَل الأميركيين، بالدخول إلى سوق التردّدات. ولكن الاتحاد الأوروبي، الحريص على الحفاظ على أمن شبكات اتصاله، أصدر مجموعة من التوصيات الحازمة الخاصة ببناء شبكة الـ«5g»، وحدّد لائحة من الشركات المُصنَّفة الخطرة، وطلب من شركات الاتصالات الوطنية الحؤول دون تمركزها في مواقع حسّاسة. لقد فضّلت أوروبا، على عكس الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا أو اليابان، تعزيز الإجراءات الأمنية عند تعاملها مع «هواوي» بدلاً من وقف التعامل معها. وأعلنت هذه الأخيرة، في بادرة حسن نية، بداية تمركز وحداتها الإنتاجية في القارة الأوروبية.يشكّل هذا التطور انتصاراً لشركات الاتصالات الأوروبية التي أكدت دوماً استحالة تجاوز «هواوي» وتجهيزاتها إذا أرادت أوروبا تجنّب سنتين من التأخير على الأقلّ في عملية الانتقال إلى الجيل الخامس من شبكات الخلوي. وتحتلّ الـ«5g» موقعاً مفتاحياً في مسار التطور التكنولوجي، خاصة في مجال السيارات الذاتية القيادة والآلات الذكية المتصلة ببعضها البعض والذكاء الاصطناعي. هي ستسمح بربط 500 مليار آلة بشبكتها عبر العالم بحسب المفوضية الأوروبية، وتوفر مردوداً يُقدَّر بـ225 مليار دولار على المستوى الدولي. في هذا السياق، تنفرد «هواوي» بقدرتها على التحكّم بجميع وظائف شبكة «5g» بكلفة مقبولة. وفي فرنسا مثلاً، قامت شركتا «أس أف إير» و«بويغ» بشراء أبراج الخلوي من «هواوي»، على الرغم من اتخاذهما احتياطات لمنع تمركز العملاق الصيني في مناطق قلب الشبكة، كالعاصمة باريس حيث لا وجود له بتاتاً. لكن للشركة الصينية أفضلية واضحة على منافستَيها السويدية والفنلندية، «نوكيا» و«إريكسون»، الأقلّ تطوراً على المستوى التكنولوجي، والعاجزتين عن نشر شبكة على نطاق واسع وفي مدة زمنية قصيرة نسبياً.
الصين في طريقها إلى تحقيق طموحها بأن تغدو القوة التكنولوجية الأولى في سنة 2030


القرار الأوروبي يعني عودة إلى التوتر مع واشنطن، التي هدّدت عدة مرات بتخفيض مستوى تعاونها الاستخباري مع أوروبا إذا أصرّت الأخيرة على شراء تجهيزات «هواوي». ويزعم الأميركيون أن معدّات الشركة الصينية تحتوي على «أبواب خلفية» تُمكّن بكين من التجسّس على جميع الآلات والتجهيزات المتصلة بالـ«5g» عبر «هواوي» أو تخريبها وذلك على الصعيد العالمي، وافتعال أعطال في الشبكة لا أسباب واضحة لها. حتى اللحظة، لم تُقدّم الولايات المتحدة أيّ دليل حسّي يبرّر اتهاماتها. ولكن «هواوي»، لتهدئة المخاوف الأوروبية، أنشأت في آذار/ مارس 2019 مركزاً للأمن السيبراني في بروكسيل يتيح توضيح «شيفرتها المصدرية» ومفاتيح برامجها. من جهة أخرى، حذّرت واشنطن الأوروبيين من تداعيات القانون الذي تمّ التصويت عليه في الصين سنة 2017، والذي يسمح للدولة بالحصول على معلومات ومعطيات بحوزة الشركات لدواعٍ أمنية، وهو تقريباً نسخة صينية من قانون «باتريوت أكت» الأميركي الذي كان بمثابة ترخيص للتجسّس على الشركات غير الأميركية. وقد كشفت قضية سنودن ضخامة النشاط التجسّسي الأميركي بفضل «الأبواب الخلفية» التي احتوتها معدّات شركة «سيسكو»، والهادفة أساساً إلى تسهيل حصول وكالات الأمن الأميركية المختلفة على أكثر المعلومات حساسية، وحتى تجسّسها على حلفائها الأوروبيين. يبدو أن أوروبا أيقنت أن الحافز الفعلي للقرار الأميركي عدم التعامل مع «هواوي» يرتبط باعتبارات سياسية، وليس بضرورة التصدّي لتهديد أمني غير ثابت حتى الآن. الصين اليوم هي قاطرة الاقتصاد العالمي، حيث تساهم بـ30% من النمو على صعيد الكوكب بفضل التجدّد التكنولوجي. ويتزايد التنافس التكنولوجي بين واشنطن وبكين بموازاة استثمار الدولة والقطاع الخاص الصينيَّين عشرات مليارات الدولارات سنوياً في مجالات البحث والتطوير الخاصة بالـ«5g»، وبالذكاء الاصطناعي، وكذلك في ميدان القدرات التكنولوجية الوطنية للتحرّر من الاعتماد على المكوّنات الأجنبية وفي مقدمتها الأميركية.
ويرى شارل تيو، الباحث في «المعهد الأوروبي للعلوم الاجتماعية والسياسية»، في مقال بعنوان «نحو نهاية الهيمنة التكنولوجية والعلمية؟»، أن «الشركات الرقمية الكبرى، بايدو وعلي بابا وتنسنت وهواوي وكزايومي، هي التي شاركت في تحوّل الصين إلى قوة تكنولوجية مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، نتيجة للدعم المالي والمادي والسياسي الذي أمّنته الدولة. فبين عامَي 2007 و2015، تضاعفت رسملة بايدو في سوق الأسهم 14 مرة، وزاد صافي دخلها 60 مرة». ويضيف تيو أن روبين لي، رئيس شركة «بايدو»، وعضو المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، كان أول من دعا إلى تعاون بين الحزب الشيوعي والشركات الرقمية في ميدان الذكاء الاصطناعي، مهّد سنة 2015 لخطة «العقل الصيني» لتأمين شروط تفوّق البلاد. وأصبحت العشرات من الشركات العاملة في سوق الصحة مثلاً، وهو حال العملاق «تنسانت» صانع تطبيق «وي تشات» الأكثر شعبية في الصين، تقوم بتطوير الذكاء الاصطناعي عبر صناعة تطبيقات يستعين بها الأطباء عند معالجتهم لأمراض خطيرة كالسرطان. لقد تمكّنت الشركات الصينية من اللحاق بشركات «غافا» (غوغل، أمازون، فايسبوك، آبل)، وحتى من تجاوزها في عملية السباق التكنولوجي الدائرة اليوم. ويظهر أن الصين في طريقها إلى تحقيق طموحها بأن تغدو القوة التكنولوجية الأولى في سنة 2030، والقوة العالمية المتفوقة سنة 2049.