التصريحات التي أدلى بها إيمانويل ماكرون، عن روسيا، خلال مؤتمر ميونيخ في 15 شباط، أثارت مجدداً تساؤلات حول طبيعة سياسة التقارب التي يعتمدها حيال هذا البلد. فبعد أن أدان محاولات روسية لزعزعة استقرار الديمقراطيات الأوروبية عبر هجمات سيبرانية، وأكد أن «العقوبات لم تغير شيئاً من سلوك روسيا»، أصرّ الرئيس الفرنسي على ضرورة «مباشرة حوار استراتيجي مع موسكو من دون تقديم تنازلات لها» تتعلّق بالنزاعات المجمّدة حالياً. تأتي هذه التصريحات لتظهر التوجّه للانفتاح على روسيا، الذي أعلن عنه قبل ستة أشهر خلال مؤتمر السفراء، على رغم غياب الإجماع حوله في فرنسا وأوروبا.ماكرون بنفسه كان قد كشف، خلال مقابلة في آب 2019 مع جمعية الصحافة الرئاسية، عن عداء «الدولة العميقة» في فرنسا لروسيا، وعن المواقف الأيديولوجية المسبقة السائدة في وزارة الخارجية، التي تضم تياراً من المحافظين الجدد، والتي عبّر عنها وزير الخارجية بنفسه، جان إيف لودريان، عندما وصف روسيا بـ«العدو المرحلي» و«التهديد». رأى ماكرون أن هذه الرؤى هي عقبات أمام التقارب بين باريس وموسكو. وإضافة إلى العقبات الداخلية، فإن التحدي الأبرز بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي هو إقناع الأوروبيين بضرورة إدراك السياق الاستراتيجي الدولي الجديد، الذي باتت فيه روسيا لاعباً مركزياً لا يمكن تجاهله لحل الأزمات الكبرى، ولضمان الاستقرار في أوروبا. وجاء «بريكسيت» والتركيز الألماني على الأولويات الداخلية ليسهّلا مهمّته نسبياً.
المؤرّخة المتخصّصة في التاريخ الروسي والأستاذة في جامعة «السوربون»، فرنسواز طوم، انتقدت في مقال بعنوان «فرنسا - روسيا: علاقات خطرة؟» إرادة التقارب الفرنسية - الروسية، وجزمت بأنها ستفضي إلى تحقّق «توقّعات ألكسندر دوغين، منظّر الأوراسية، التي أعلنها خلال سنة 2014، والتي زعم فيها أن روسيا ستعرض على أوروبا أن تخضع لانتدابها. بعد ذلك لن تعرف جورجيا ولا أوكرانيا في أي اتجاه ينبغي أن تستديرا. إذا ذهبتا نحو أوروبا فستصبحان عملياً تحت سيطرتنا. لن يبقى هناك حدود، وسيدخل الاتحاد الأوروبي إلى الاتحاد الأوراسي». معارضة فرنسا في تشرين الأول 2019 لانضمام ألبانيا ومقدونيا إلى الاتحاد الأوروبي، والتي تعرّضت لنقد شديد من رئيس المفوضية الأوروبية ومن ألمانيا وبولندا ودول البلطيق، فسّرت من قبل «الخبراء» المفضّلين لدى وسائل الإعلام الفرنسية كهدية من ماكرون لبوتين، لتعزيز طموحات روسيا للهيمنة على البلقان.
قطاع معتبر من الانتلجنسيا الغربية لا يلتفت إلى النجاحات التي حقّقتها سياسة «اليد الممدودة» لروسيا، كالحصول على توقيعها على اتفاق باريس حول المناخ أو على موافقتها على «مسار النورماندي»، الذي يضم فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا لحل الأزمة الأوكرانية عبر جمع رئيسها مع نظيره الروسي في الـ9 من كانون الأول الماضي في باريس، وإنجاز تقدّم فعلي على المستوى الأمني تمثّل في تبادل للأسرى بين أوكرانيا وروسيا وإعادة السفن الأوكرانية المصادرة، وما تنطوي عليه هذه الخطوات من تعامل بين الطرفين على قاعدة الندية. تعتقد القطاعات المذكورة أن روسيا تنتهز الفرصة الآن لاستغلال الأوروبيين وحملهم على تقديم التنازلات في الملف الأوكراني، وتغيير «هندسة الأمن الأوروبي تدريجياً، بشكل يسمح لها بالحلول مكان الولايات المتحدة»، بحسب فرنسواز طوم. هذا الخطاب الذي يتهم روسيا بأنها قوة محافظة تراهن أساساً على القوة العسكرية لتغيير التوازنات الأوروبية التي تلت سنة 1989، والذي ينظر إلى التحالف الروسي - الصيني باعتباره وسيلة للضغط على القارة القديمة، مسيطر في الأكاديميا الغربية. هو يعكس الجهل الواضح بالوقائع الجيوسياسية المستجدة وعجز عن القطيعة مع منظور الهيمنة الغربية المنتصرة في الحرب الباردة، وهي المقدمة الضرورية للتفكير في علاقات دولية متوازنة تستند إلى مصالح مشتركة. تدعو «المؤرّخة» إلى عزل روسيا وإلى تشديد العقوبات عليها، ما سيشجع برأيها النخب الروسية على الخروج بالخلاصات المرتبطة بإخفاقات المرحلة الحالية استعداداً لـ«ما بعد بوتين»، وهو تحليل يشي بقدر كبير من الانفصال عن الواقع.
ماكرون مُحقّ في استنتاجه بشأن النتائج العكسية لسياسة العقوبات على روسيا، لأنها فعلاً أدّت إلى المزيد من التشدّد في مواقف النظام الروسي بعد أن كان بوتين، وهو وريث سياسي ليلتسين وغورباتشوف، قد حاول العودة إلى سياسة التقارب، واعتبر في خطابه أمام «البندشتاغ» الألماني في أيلول 2001 أن بلاده جزء من أوروبا، وجهر بأمنيته أن يكون شريكاً لها. الموقف السلبي لأوروبا كان تسبّب أيضاً بتغيّر في نظرة الرأي العام الروسي إليها. فقد أظهر استطلاع الرأي الذي نظّمه مركز «ليفادا»، في أيلول 2019، أن 37% من الروس فقط مقتنعون بأن روسيا دولة أوروبية، في مقابل 52% عام 2008. روسيا بوتين ليست الاتحاد السوفياتي بقيادة غورباتشوف، ومن الصعب تصديق أن سياسة ضغوط وعقوبات ستقود إلى تغييرات في نظامها. وكما يشير أندري غراتشيف، آخر ناطق رسمي باسم غورباتشوف، في كتابه «حقبة ما قبل الحرب جديدة؟»، فإن نهاية الاستقرار المزيف الذي ساد خلال الحرب الباردة وارتبط بتوازن الرعب، يعني أن احتمالات اندلاع نزاعات عادت إلى الارتفاع. روسيا بوتين تأخذ هذا السياق الجديد بعين الاعتبار عندما تدافع عن دائرة نفوذها وتطالب بإعادة بناء لنظام عالمي يلحظ التوازنات الجديدة. ولا شك في أن صعود الصين، الذي يرسم خطوط توتر في آسيا، وبروز لاعبين جدد على المسرح العالمي، والتنافس الاستراتيجي، وتكاثر بؤر التوتر، جميعها عوامل يجب أن تحفز أوروبا على تنويع شراكاتها، والتحالف مع روسيا لحل الأزمات الدولية والحد من اندفاعتها تجاه الصين، والتحوّل مجدداً إلى لاعب دولي قادر على الدفاع عن مصالحه في ظل وجود تناقضات بينه وبين حليفه الأميركي. الحوار الاستراتيجي مع روسيا الذي يريده ماكرون ينطلق من تقدير واقعي للموقف ولمصالح فرنسا وأوروبا في عالم يتجه بسرعة نحو التعددية القطبية.