إسطنبول | بعد أسبوعين من تهديداته بإرسال الملايين من اللاجئين إلى أوروبا، عاد وتراجع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، عن قراره، وأمر خفر السواحل بمنع المهاجرين من عبور بحر إيجه. كما نشر قوات «الجندرمة» (الدرك) على الحدود البرية مع بلغاريا واليونان، لمنع اللاجئين من الاقتراب منها. جاء قرار إردوغان الثاني عشية زيارته إلى عاصمة الاتحاد الأوروبي في محاولة جديدة منه للحصول على مساعدات مالية إضافية، بعد أن قال أول من أمس إنه ليس بحاجة إلى مثل هذه المساعدات، وبعد أن استهزأ بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي وعدته بـ 25 مليون يورو.أدّت تصريحات ومواقف الرئيس التركي المتناقضة لردود فعل عنيفة في الأوساط الأوروبية، التي اتهمت إردوغان باستخدام اللاجئين كورقة ضغط سياسي على الاتحاد الأوروبي، بعد أن رفض حلف «شمال الأطلسي» مساعدة أنقرة في أزمتها مع روسيا وسوريا وإيران في موضوع إدلب. كان إردوغان يتوقّع لثلاثة ملايين لاجئ جديد أن يغادروا المدينة باتجاه الحدود التركية، وهو ما قالت عنه أوساط أوروبية بأنه عدد مبالغ فيه للتأثير في الموقف الأوروبي. وهو ما يفسّر قرار أنقرة إرسال اللاجئين إلى الحدود مع بلغاريا واليونان بحافلات خاصة نقلتهم وسط الحملات النفسية للتأثير عليهم وإجبارهم على مغادرة تركيا. إلا أن الأرقام بيّنت أن نسبة السوريين بين هؤلاء اللاجئين لم تتجاوز 8 في المئة فقط، مقابل 60 في المئة من الأفغان.
سبق لإردوغان أن قال، أكثر من مرّة، إن تركيا قد صرفت أكثر من 40 مليار دولار على اللاجئين السوريين، وهو ما ترى فيه المعارضة مبلغاً مبالغاً فيه لأن العدد الأكبر من اللاجئين (قيل رسمياً إن عددهم 3,6 ملايين) يعيشون في تركيا على حسابهم الخاص، وعدد منهم جاء إلى تركيا بمبالغ كبيرة من العملات الصعبة والمجوهرات، وهو ما ساهم في دعم الاقتصاد التركي. يضاف إلى ذلك أن السوريين يعتبرون أيدياً عاملة رخيصة مقارنة بالمواطنين الأتراك.
وكان الرئيس التركي قد استغل ورقة اللاجئين للفترة بين عامي 2012 و2016، كورقة ضغط على الدول الأوروبية لتساعده في سياساته في سوريا، إن كان في موضوع «المنطقة الآمنة» أو فرض حظر جوي شمال سوريا. وسمحت السلطات التركية، في خلال الفترة المذكورة، لمئات آلاف من اللاجئين بالتوجّه إلى الجزر اليونانية عبر بحر إيجه أو برّاً عبر الحدود مع بلغاريا واليونان. ودفع ذلك الاتحاد الأوروبي للتوقيع مع أنقرة في آذار 2016 على اتفاقية خاصة لمعالجة أزمة اللاجئين، تعهّدت بموجبها بعض الدول الأوروبية، في مقدّمتها ألمانيا، باستضافة حوالى مليون لاجئ والإعلان عن موعد جديد للسماح للمواطنين الأتراك بحرّية التنقّل في دول الاتحاد الأوروبي. كما وعد الاتحاد تركيا بمساعدات مالية بقيمة 6,5 مليارات يورو، تم تسديدها حسب المصادر الأوروبية، وهو ما يكذّبه الجانب التركي بسبب الإجراءات المالية المعقّدة في ما يتعلّق بتمويل المشاريع التركية الخاصة باللاجئين السوريين (يعيش حوالى 200 ألف منهم فقط في مخيمات الدولة والباقي يعيشون على حسابهم الخاص في معظم الولايات التركية). وكانت هذا الاتفاقية هي السبب في الخلاف بين إردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، فتخلّص إردوغان منه بعد أشهر قليلة لأنه لم يستشره خلال المباحثات مع الاتحاد الأوروبي.
تستمرّ أنقرة في تقديم الخدمات الصحّية والتعليمية المجانية للاجئين السوريين وتُعفي العاملين منهم من الضرائب. والهدف أن يساهم ذلك في كسب ودّهم لإردوغان وتركيا التي وضعت العديد من الحسابات المستقبلية من أجل هؤلاء وحوالى 4 ملايين آخرين يعيشون في المناطق التي يتواجد فيها الجيش التركي شرق الفرات وغربه، حيث يتحدّث إردوغان والوزراء بين الحين والآخر أن نيّة تركيا البقاء في هذه المناطق، مع معلومات صحافية تتحدّث عن مساعي السلطات التركية للتربّح من هذه المناطق (وهو ما أشارت إليه موسكو للمرّة الأولى الأسبوع الماضي).
المسؤولون الأوروبيون، من جهتهم، لم يعد يخفون انزعاجهم من المواقف التركية ويعدّونها استفزازية، ليس فقط في موضوع اللاجئين، بل في ما يتعلّق بالعديد من القضايا، ومنها الخلاف على غاز قبرص بامتدادات ذلك على الأزمة الليبية والاتفاقية التي وقّعها إردوغان مع رئيس حكومة «الوفاق الوطني» الليبية فايز السراج، والمتعلّقة بترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا. أدّت هذه الاتفاقية إلى توتر جدّي بين أنقرة وكل من أثينا وروما وباريس التي اتهمت إردوغان بانتهاج سياسات عدائية ضد اليونان وقبرص، وهي دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي الذي اتخذ العديد من العقوبات الاقتصادية والمالية والسياسية ضد تركيا بسبب استفزازاتها في قبرص.
جاء استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس، للجنرال الليبي خليفة حفتر، أثناء وجود إردوغان في بروكسل، كردّ على الموقف التركي، ليس فقط في ليبيا بل في ما يتعلّق باللاجئين الذين كان ملفّهم هو السبب في تصاعد التيار القومي العنصري في الدول الأوروبية التي تشكو من فعّاليات وأنشطة الأتراك الموالين لإردوغان المقيمين في هذه الدول، وهو ما شكا منه ماكرون رسمياً الشهر الماضي.
يبدو واضحاً أن هذه المعطيات، بعناوينها الرئيسية الخاصة باللاجئين، ستكون كافية لاستمرار «الفتور والتوتر» بين أنقرة والعواصم الأوروبية. وبحسب معارضيه، فإن إردوغان كان ولا يزال بحاجة إلى مثل هذا التوتر لأسباب داخلية والاستفادة من الخلافات الخارجية ذات الطابع «الديني والقومي والتاريخي».