مؤشر جديد على احتدام «التنافس بين القوى الكبرى»، وهو التعبير الذي ابتدعته أدبيات البنتاغون، بعد عودة سباق التسلح واللجوء إلى الحرب الاقتصادية والتجارية والأمنية والسيبرانية بين الأطراف «المتنافسة»، هو عدم تردّدها في محاولة استغلال أي أزمة دولية ضد بعضها البعض إذا كان ذلك ممكناً. رأينا مثلاً كيفية توظيف أوساط أميركية وغربية نافذة لأزمة انتشار فيروس «كورونا» في بداياتها لإطلاق حملة هوجاء ضد الصين ورئيسها شي جين بينغ، واعتبار هذه الأزمة «تشيرنوبيل» الصين لا أقل والدعوة إلى تنحيته. اختلف الوضع اليوم مع التفشي المتزايد للفيروس وتداعياته المتعاظمة على النطاق العالمي، خاصة على المستوى الاقتصادي والمالي. وإذا كانت العقوبات الاقتصادية والتجارية قد باتت السياسة المعتمدة من قبل الإدارة الأميركية حيال خصومها، وحتى حلفائها في العديد من الحالات، لإجبارهم على الانصياع لإرادتها ومخططاتها، فإن أحد هؤلاء الخصوم، روسيا، قد قرّر الرد على سياسة الحرب هذه بوسائل شبيهة دفاعاً عن مصالحه الحيوية، مستفيداً من الفرصة التي وفّرتها التداعيات الكارثية على سوق النفط العالمي لأزمة تفشي «كورونا». من الصعب اليوم معرفة الانعكاسات المتوسطة والطويلة المدى لما سمّاه البعض «مذبحة» أسعار النفط، الناجمة جزئياً عن الصراع الجيوسياسي المذكور، بدقة، لكن الأكيد هو أنها ستزيد من حدّته واتساعه.
الخلفيات الجيوسياسية
تمثّل حصّة الصين من الاستهلاك العالمي للنفط 14 في المئة، أي حوالى 14 مليون برميل يومياً، وهي أصبحت سنة 2019 المستورد الأوّل له. انتشار «كورونا» وما نجم عنه من إجراءات احترازية وقيود على حركة النقل ونتائجه على النشاط الاقتصادي بشكل عام في الصين أدّى إلى انهيار الطلب على النفط وكذلك أسعاره. فبين بدايات كانون الثاني الأخير وشهر آذار الحالي، تراجع سعر برميل النفط من 70 إلى 50 دولاراً. غير أن فشل قمّة فيينا بين دول «أوبك» ومنتجين مستقلّين بقيادة روسيا، بعد 3 سنوات من الشراكة في إطار صيغة «أوبك+»، بعد رفض روسيا العرض السعودي باقتطاعات حادة في إنتاج النفط، وما تلاه من بداية تنازع على حصص من سوقه العالمي بين الطرفين وتخفيض لأسعارهما، أدّيا إلى أكبر تراجع في أسعاره منذ 29 عاماً. لكن معركة روسيا الفعلية ليست مع السعودية بل مع الولايات المتحدة. ما زالت هذه الأخيرة، بمعزل عن النوايا الحسنة التي لا يتوقف دونالد ترامب عن إبدائها تجاه موسكو، وبتأثير مباشر من القطاع الأوزن من الدولة العميقة، تتبع تجاهها استراتيجية احتواء تهدف إلى عزلها قدر المستطاع وإضعافها.
يندرج في هذا الإطار القانون الذي وقّعه الرئيس الأميركي في كانون الأول 2019 والذي ينص على فرض عقوبات على الشركات المساهمة في بناء خط أنبوب الغاز الروسي «السيل الشمالي 2». ما تجدر الإشارة إليه هو أن الأنبوب يمرّ تحت بحر البلطيق ويلتف على أوكرانيا وسيسمح بمضاعفة شحنات الغاز الروسي لأوروبا عن طريق ألمانيا، أي زيادة اعتماد هذه الأخيرة عليه، مع ما لهذا الأمر من مفاعيل سياسية إيجابية على العلاقات الأوروبية - الروسية. وقد نطق السناتور تيد كروز، حليف ترامب في مجلس الشيوخ، باسم غالبية نخب الإمبراطورية عندما رأى أن وقف خط أنابيب «السيل الشمالي 2» يجب أن يكون «أولوية أمنية رئيسية للولايات المتحدة».
لقد أتاحت مفاعيل أزمة تفشي «كورونا» على أسواق النفط مناسبة لروسيا للرد على الحرب الاقتصادية الأميركية ضدها عبر استهداف صناعة النفط الصخري الأميركية الهشّة والمكلفة في الآن نفسه. يقول المفكر والخبير الاقتصادي الفرنسي جاك سابير، والمتهم من قبل التيار السائد بين النخب الفرنسية بأنه «روسي الهوى»، في مقال بعنوان «المشهد الخلفي لانتشار الكورونا: حرب النفط؟»، أن «لروسيا هدفين: الأول، هو مفاقمة مصاعب الشركات النفطية الأميركية المنتجة للنفط الصخري. نعلم أن الشركات الصغيرة المنتجة لقسم من النفط الصخري تحتاج إلى أن يتراوح سعر البرميل بين 50 إلى 60 دولاراً لتستطيع تسديد القروض المتوجبة عليها للبنوك. روسيا تستطيع التكيّف لفترة طويلة مع سعر 30 دولاراً للبرميل. مثل هذا السعر سيضع الشركات الأميركية الصغيرة، وكذلك البنوك المقرضة، في حالة بالغة الصعوبة... أسعار منخفضة للنفط تعني أيضاً تراجعاً في الإنفاق على التنقيب عنه واستخراجه، وانخفاضاً في قيمة أسهم الشركات التي تنتج التكنولوجيا والتجهيزات المخصّصة لذلك». الهدف لثاني، يعتقد سابير أيضاً أن لانهيار أسعار النفط نتائج وخيمة على السعودية الغارقة في حرب اليمن وأكلافها الباهظة وأن إضعاف المملكة كقطب إقليمي، في منطقة يتمدّد فيها النفوذ الروسي تدريجياً، قد يكون بين غايات موسكو. لكن الواضح حتى اللحظة هو أن الاستهداف الأميركي لصناعة النفط والغاز الروسية، ليس فقط لمشروع «السيل الشمالي 2» ولكن أيضاً لشركة «روسنفت» بسبب عملها في فنزويلا، يقابل باستهداف روسي لصناعة النفط الأميركية في نقطة ضعفها والمواجهة بين الطرفين إلى احتدام كما يتضح إلى الآن.