دول عديدة على لائحة العقوبات الأميركية، باتت في أمسّ الحاجة إلى تمويل جهودها الصحية لاحتواء انتشار فيروس «كورونا»، بينها روسيا وإيران وفنزويلا وسواها. ولكن إرادة «البيت الأبيض» تقف حاجزاً في طريق إنقاذ ملايين البشر المُهدّدين. صندوق النقد الدولي الذي أعلن تقديم «التمويل السريع» للدول المحتاجة، تتحكّم فيه معاييره المتنوعة، وتوصيات الولايات المتحدة الأميركية. هكذا هي سياسة «صندوق النقد»، الذي يتفرّج على إيران وفنزويلا وغيرهما من الدول، تُكافح «باللحم الحي» لمحاولة حماية شعوبها، وتُعاني من ضعف الإمكانيات بسبب العقوبات الأميركية، وترفض أن تُساعدها... ببساطة لأنّ واشنطن «أمرت» بذلك.
فنزويلا على رأس القائمة
«العاصفة الأمثل في فنزويلا»، هكذا عنون موقع «The Hill» مقالاً مفاده أنّ وصول «كورونا» إلى فنزويلا في عزّ أزمة النفط، يوفّر الظروف الأنسب لـ«خنق نظام نيكولاس مادورو». ما سبق يختصر الرؤية الأميركية الرسمية، التي لم توفّر سابقاً ما أمكن من وسائل الحصار لتأليب الشعب الفنزويلي ضد مادورو.
كغيرها من الدول، طلبت فنزويلا مساعدةً بقرض قيمته 5 مليارات دولار لمواجهة الفيروس، الذي أصاب حتى الآن 42 شخصاً، من دون تسجيل أي وفاة. رفض الصندوق الطلب، مُعلّلاً قراره بالشكوك المحيطة بشرعية الرئيس مادورو في نظر المجتمع الدولي، وردّ بأنه «ليس في موقع يتيح له دراسة هذا الطلب». مع الإشارة إلى أنّ آخر مساعدة قدّمها الصندوق إلى فنزويلا تعود لعام 2001.
ويعاني النظام الصحي في فنزويلا من صعوبات من جرّاء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أذكتها العقوبات الأميركية، ولا سيّما على قطاع النفط. وبغياب مساعدة صندوق النقد، سيكون على فنزويلا انتظار مساعدة من حلفائها، ولا سيما الصين، التي باتت تتمتع بميزة نسبية في إطار مكافحة «كورونا»، علماً بأنّ كوبا تمدّ يد المُساعدة لجارتها و«صديقتها» كاراكاس، من خلال البعثات الطبية. ولكن إلى حين الحصول على مساعدة مادية، لجأت فنزويلا إلى إجراءات مشددة في تطبيق «التباعد الاجتماعي» المطلوب للحدّ من انتشار الفيروس، ولم يسلم ذلك أيضاً من الانتقاد الإعلامي الأميركي. فكتبت «واشنطن بوست» أنّ موجات اللاجئين الخارجين من فنزويلا نحو الجوار زادت خوفاً من «مواجهة كورونا داخل فنزويلا»، متحدّثة في تقرير لها عن «نفاد أي وسائل للتعقيم داخل المستشفيات».

إيران «فرصة أيضاً»
الى جانب فنزويلا، طلبت إيران مساعدة «الصندوق»، هي التي لم تحصل على مساعدات من صندوق النقد منذ تسلمها «قرض دعم» بين عامي 1960 و1962، أرادت طهرات الحصول «فوراً» على مساعدة مالية تتيح لها مواجهة الفيروس المتفشّي بكثرة في البلاد. واعتمدت إيران في طلبها هذا، وفق ما عبّر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عبر «تويتر»، على تعهّد مديرة الصندوق، كريستالينا جورجييفا، التي أكّدت أنّ «الدول المتأثرة ستحظى بالدعم عبر أداة التمويل السريع».
الجواب على الطلب الإيراني لم يصدر حتى الآن. ولكن «الاتصالات لا تزال مستمرة»، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا). فترة الانتظار هذه لم تمنع الأميركيين من فرض حزمة عقوبات جديدة، شملت - من بين ما شملته - خمس شركات إيرانية. كلّ ذلك فيما ارتفع عدد المصابين في إيران إلى قرابة 20 ألفاً، والمتوفين إلى أقل من 1500 بقليل. وكما في فنزويلا، انبرى المحللون الأميركيون إلى التأكيد أنّ هذه الفرصة مناسبة للإدارة الأميركية لتطبيق «سياسة الضغط الأقصى على النظام الإيراني». وفي غياب لأدنى المعايير الأخلاقية والإنسانية في مواجهة أزمة كهذه، يخرج وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ويقول إنّ هناك خلافات جذرية مع طهران وبيونغ يانغ «لكننا بذلنا جهوداً حثيثة من أجل توفير ظروف أفضل للشعبين الإيراني والكوري الشمالي».
تأثير العقوبات الأميركية على النظام الصحي الإيراني ليست طارئة، ففي العام الماضي، حذّرت «هيومن رايتس ووتش» من أنّ العقوبات «قيّدت بشدّة قدرة إيران على تمويل الواردات الإنسانية، بما في ذلك الأدوية، ما تسبّب في صعوبات خطيرة للإيرانيين، وهدّدت حقّهم الإنساني في الحصول على رعاية صحية».
وأمام تحديات اقتصادية وسياسية خارجية وداخلية وعزلة دولية، سعت إيران إلى البحث عن تحالفات بديلة، منها التعاون مع الصين والانضمام إلى «مبادرة الحزام والطريق» التي مثّلت حقبة جديدة من المنافسة العالمية بين الولايات المتحدة والصين. وفي مقابل تأكيد المرشد الأعلى في إيران، آية الله علي خامنئي، حيال انتشار «كورونا»، أنّ «هناك قرائن تشير إلى احتمال وجود هجوم بيولوجي»، حاولت وسائل إعلام وجهات بحثية ربط الوجود الصيني داخل إيران بانتشار الفيروس، وإن بشكل غير مباشر. مثلاً، لفت تقرير لصحيفة «وول ستريت» إلى أعمال شركة هندسة السكك الحديدية الصينية في بناء خط سكة حديد فائق السرعة بقيمة 2.7 مليار دولار، وانخراط عمال صينيين في تجديد محطة للطاقة النووية عبر قم، المدينة التي شهدت أوسع انتشار للفيروس. أيضاً، كان لافتاً كلام سانام فاكيل، نائب مدير شؤون الشرق الأوسط في معهد «تشاثام هاوس»، عن إيران: «كانت الصين الشريك التجاري الأساسي، ولكنها في هذه الحالة تحولت إلى قنبلة خطيرة جداً».
مجلس الوزراء الإيراني أعلن أنّ 60 الى 70% من الإيرانيين سيصابون بالفيروس. من جهة أخرى، وقبل الإعلان السابق بأيام، أجرت جامعة شريف للتكنولوجيا دراسة مهمة عن نتائج انتشار الفيروس مع انتهاء مرحلة الذروة، وعرضت فيها 3 سيناريوات لانتشار الفيروس، معتمدةً على التزام الإيرانيين بتوصيات الحكومة، وأبرزها الحجر الصحي الطوعي. السيناريو الأول يفيد بأنه إذا ما خفض الناس تواصلهم وتنقلهم والتزموا بالحجر بنسبة 85%، فإن هذا سيؤدي إلى تراجع الانتشار بنسبة 65%، ما يعني: 120 ألف إصابة و12 ألف وفاة. أما السيناريو الثاني يقول إنه إذا بقي الوضع على ما هو عليه، بـ50% من الشعب في الحجر والباقون خارجها، فهذا سيؤدي في النهاية إلى 300 ألف إصابة و 110 آلاف وفاة. أخيراً السيناريو الأسوأ: عدم التزام الناس بالحجر الطوعي وعدم التزامهم بالتعليمات والإرشادات، واعتماد السلطة على الامكانيات الصحية فقط، فسيؤدي هذا الى أربعة ملايين مصاب وما يقارب 3.5 ملايين وفاة!

معاقبة «حلفاء الصين»؟
يكثر القول إنّ «كورونا» هو حرب بيولوجية أميركية على الصين وعلى شركائها الأساسيين في خطة «الحزام والطريق». إنها دول خارج الهيمنة الأميركية تبحث عن بدائل في الاقتصاد الدولي، ويبدو أنّها تدفع اليوم ثمن معارضتها لواشنطن بمنعها من الوصول إلى المساعدات، أو حتى برفع العقوبات عنها.
بمعزل عمّا إذا كانت فعلاً «حرباً بيولوجية» أو لا، كلّ ما سبق يؤكّد أنّ المسار الأميركي في فرض العقوبات ومنع وصول المساعدات مُستمر، حتى في معركة لم تعد تعرف حدوداً. هي حرب بطريقة غير مباشرة، لا تتسبّب سوى في ارتفاع أعداد الضحايا. ويُمكن القول إنّ الدول تدفع (من ضمن ما تدفعه) ثمن التعاون الاقتصادي مع الصين، التي انطلقت بعد مرحلة احتواء المرض إلى مدّ يد العون إلى إيران وإيطاليا ولبنان والدول المحتاجة، والتي قد تكون فنزويلا واحدة منها. أما أوروبا التي أغلق ترامب الباب في وجهها، فقد دخلتها كوبا والصين هذه المرة من باب البعثات الطبية والمساعدات الصحية في إيطاليا، التي اتخذت عنوان: «يجمعنا بحر واحد».