قبل سنة من الآن، في شهر آذار/مارس الـ2019، لم يكن أحد يتصور أنّ كل هذه الأحداث المتتالية ستحدث لتُغيّر مفاهيم وسياسات اتّسم بها العصر الحديث. أتى «كوفيد 19» حاملاً معه سلّة من المتغيّرات الجذرية على الحياة البشرية. ذلك «العدّو الصغير» غير المرئي، أعاد تقسيم الكرة الأرضية إلى أجزاء بعد أن كانت قرية كونية بفعل العولمة التي فرضت نفسها منذ ثمانينيات القرن الماضي، نظاماً عالمياً. اليوم، يبدو الفيروس آخر إنتاجات هذه العولمة، ليكون في الوقت نفسه العصا التي ستقصم ظهر العولمة ذاتها. فإلقاء نظرة حول شكل العالم الحالي، يُظهر أنه لم يبقَ منه سوى دول تضرب أطواقاً من العزلة حول نفسها، ليس فقط خارجياً إنّما حتى داخلياً حيث عُزلت مدنٌ عن مدن أخرى، وبات الانتقال من حيٍّ إلى حيّ محظوراً. ناهيك عن التكتلات الدولية التي أصبح بيّناً اهتزازها. يُضاف إلى ذلك، سياسة «الأنا» التي ظهرت، إذ أصبح كلّ فريق يبحث عن طريقة «نجاته»، حتى لو أودى ذلك بالتعاقدات والاتفاقات التي خُطت في ما مضى. «كوفيد 19» ليس وحده السبب في كل ذلك. فمنذ ما قبل ظهور الفيروس، بدأت هشاشة العولمة بالظهور، لتحلّ محلّها الحمائية الاقتصادية والانغلاق السياسي. فالسنوات الفائتة، شهدت بداية أزمة ركود عالمي بفعل فرضٍ للقيود والتعرفات الجمركية، واستخدام سلاح العقوبات لتطويع الدول، من كيانات تُعرّف عن نفسها بأنّها المؤسسة للتجارة الحرة والسوق العالمي الموحّد، والمدافعة عن حقوق الإنسان وحريته. كما عمدت بعض الأقاليم إلى الانفصال، وبعض الدول إلى الانسحاب من التكتلات الدولية. وفٌضّت معاهدات دولية، الأمر الذي عقّد المشهد العالمي على الصعيدين السياسي والاقتصادي. من هذا المنطلق، بدت الأجواء العالمية «مُهيَّأة للاختراق»، فأتى الفيروس ليُكمل على ما بدأته الأنظمة النيوليبرالية».
لم تكن الأنظمة بحاجة إلى «كوفيد 19» لتأكيد ظاهرة انحسار العولمة، لكنّ «الإنسان» كان بحاجة إلى مثل هذا الفيروس ليتأكد من هشاشة ما بنى عليه حياته، ويبدأ «رحلة عزلته» التي بدأت تظهر تباعاً منذ اكتشاف «كورونا» للمرة الأولى قبل أربعة أشهر في مقاطعة ووهان الصينية.
اختلفت قراءات الخبراء حول شكل العالم ما بعد «كورونا»، منهم من رأوا أنّ الأزمة الحالية ستكون اقتصادية وسياسة بحتة، وآخرون رأوا أنّ الأزمة ستولّد أزمة اجتماعية. مجلة «فورين أفيرز» الأميركية كانت من داعمي النظرية الثانية، مُعتبرةً أنّ «خطر الوباء الحقيقي هو الانهيار الاجتماعي». وأضافت في تقريرٍ نشرته الأسبوع الماضي، أنّ «الاقتصاد يرتبط بالمجتمعات، وبالتالي فإنّ تفكّك الاقتصاد العالمي سيؤدي إلى تفكّك المجتمعات أيضاً». ولفتت المجلة إلى أنّ «العالم يواجه اليوم تحولاً عميقاً وهو العودة إلى الاقتصاد الطبيعي أي الاكتفاء الذاتي، وهو عكس العولمة... لن تكون الضغوط الاقتصادية هي الدافع وراء الانتقال إلى الاقتصاد الطبيعي، بل مخاوف أكثر جوهرية مثل الأمراض الوبائية والخوف من الموت، مشيرة إلى أنّه «يجب على التدابير الاقتصادية المُتّخذة حالياً أن تأخذ في الحسبان توفير الحماية للأشخاص الذين يفقدون وظائفهم. فعندما يعجز الناس مثلاً عن دفع فواتيرهم، سيؤدي ذلك إلى خلق مشاكل متتالية، من عمليات إخلاء المساكن إلى الأزمات المصرفية». ورأت «فورين أفيرز» أنّه إذا خرج الناس من الأزمة الحالية «بدون مال ولا وظائف ولا رعاية صحية، وإذا أصبح هؤلاء يائسين وغاضبين، فإنّ مشاهد مثل هروب السجناء في إيطاليا أو النهب الذي أعقب إعصار كاترينا في نيو أورلينز عام 2005، قد تصبح أموراً شائعة». وختمت بالقول بأنّه «إذا اضطرت الحكومات إلى استخدام القوات شبه العسكرية أو العسكرية لقمع أعمال الشغب أو الهجمات على الممتلكات، فقد تبدأ المجتمعات في التفكّك. وبالتالي، ينبغي أن يكون الهدف الرئيسي (وربما الوحيد) للسياسة الاقتصادية اليوم هو منع الانهيار الاجتماعي. يجب على المجتمعات المتقدّمة ألا تسمح للاقتصاد، ولا سيما ثروات الأسواق المالية، بأن تغض النظر عن حقيقة أنّ أهم دور يمكن أن تلعبه السياسة الاقتصادية الآن هو الحفاظ على الروابط الاجتماعية قوية تحت هذا الضغط الاستثنائي».
يوافق مؤرّخ العلوم، في جامعة «بورغوني» الفرنسي، لوران هنري فينيو، على نظرية «فورين أفيرز». هو يعتبر أيضاً أنّ «الوباء يُهدّد الروابط الاجتماعية ويُطلق العنان لشكل خفي من حرب أهلية يكون فيها كلّ واحد حذراً من جاره ... انتشار الأوبئة يُشكّل دوماً امتحاناً للمجتمعات البشرية». حالياً، وفي خضمّ صراع العالم مع الفيروس، هرعت الدول كافة إلى العمل على الخطط لمعالجة اقتصادها الذي اهتزّ بفعل «كورونا»، متناسية «الإنسان» الذي يبدو أنّ التعامل معه هو التحدّي الأساسي، بحسب فينيو. وهو يُدعّم قوله بذكر مشاهد لأشخاص يتدافعون في متاجر الأغذية على حزمة من ورق المرحاض، وطبيب يقف حائراً لاختيار أي مريض يجب أن يضع له جهاز تنفس وأي مريض يجب أن يُسحب منه، نظراً إلى نقص المعدات، «كأنك في زمن الحرب». كذلك، يظهر التغيير الكبير في السلوك الفردي والمجتمعي، «فأصبح الإنسان يخلق المسافة بينه وبين الآخرين، ويُفضّل العزلة في منزله، ويخاف حتّى من ملاقاة أهله أو جيرانه. فيما يعتمد على تقنيات التواصل عن بعد كالاتصال عبر الفيديو». كلّ هذه الأمور قد تؤدي إلى «انفجار اجتماعي»، وهو واحدٍ من أكبر المخاطر التي قرّبتها أزمة «كورونا».
في هذا السياق، يرى المدير العام للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، والكاتب المتخصّص في مجال الأمن القومي، الدكتور محمد سيف الدين، أنّ تراجع مستويات الإنتاج إلى حدودها الدنيا، وتعطّل أعمال مليارات البشر المنعزلين في بيوتهم خوفاً من العدوى، ونظام الأجور في الساعة والتعاقد الذي اجتاح العالم في ظلّ العولمة وانفلاش الشركات الكبرى، وتعطّل الإنتاج الذي يعني تعطّل المداخيل، وارتفاع قيمة «السلّة الطبية» إلى مئات الدولارات شهرياً (تختلف بين دولة وأخرى)، ومع فراغ رفوف المتاجر من المواد الضرورية، «سيتحوّل الإنسان مع الوقت إلى متوحّش يمكن أن يستغل أقرب فرصة لارتكاب جريمة»، التي إن أتت فستكون في سياق «مُبرّر» وهو «الدفاع عن الوجود». ويضيف سيف الدين في حديثٍ إلى «الأخبار» أنّ «العالم يواجه خطر مجاعة عصرية بروح القرن الـ 21، وهي مختلفة عن المجاعات القديمة. ليست جوعاً تاماً، إنّما انقلاب تام على حياة الكماليات وثقافة الاستهلاك التي عزّزتها العولمة وأنساق الدعاية في العقود الأربعة الأخيرة». ويعتبر سيف الدين أنّ «المبادرات الفردية والجماعية تنشط في مواجهة تطرف متوحّش لبعض منظّري النيوليبرالية الذين لا يرون إلا المخاطر الاقتصادية، وتراجع الأرباح وأكلاف الاستشفاء، وينظرون إلى الإنسان كعبء اقتصادي».
فهل ستتنبّه الحكومات والأنظمة إلى الخطر المُحدق بالإنسان، وتلجأ إلى سياسات أكثر مُراعاة للأمن الاجتماعي؟