النقص في الكمامات وسباق البلدان لـ«التسلّح» منها، يكاد لا يستثني دولةً. فرنسا، هي «نموذج» لـ«الفساد» المُرافق لهذا الملفّ. فتكاد لا تخلو نشرة إخبارية فرنسية وصحيفة ومُدونة الكترونية، من تناول النقص في الكمّامات داخل فرنسا، و«الفضائح» المُرافقة له. القصّة لا تنحصر فقط بـ:- سرقتها من داخل المستشفيات،
- السيطرة على شحنات آتية من الصين كانت مُخصّصة لبلدان أخرى،
- توزيعها بطريقة غير عادلة بين المناطق كما اعترف وزير الداخلية، كريستوف كاستانر يوم الجمعة 10 نيسان / أبريل بمصادرة أجهزة الدولة لملايين الأقنعة المستوردة من الصين في مطار «بال - مولوز» لصالح منطقة «غراند إست» (تضم 10 أقاليم، واقعة قرب حدود فرنسا مع ألمانيا وسويسرا ولوكسمبورج، وتُعدّ الأكثر تأثّراً بالإصابات) على حساب بقية السلطات المحلية،
- نشاط السوق السوداء حيث وصل سعر الكمامة إلى قرابة الـ7 دولارات.
ففي فرنسا، أسباب عدّة دفعت بهذه المادة الحيوية لتكون واحدة من أبرز عوامل الأزمة الصحية المُستجدة: الحاجة إليها للوقاية من وباء «كوفيد - 19»، عدم وجود مخزون كافٍ منها حتّى للطواقم الطبية، التناقضات في التصريحات الحكومية حولها، والوثائق الفضائحية التي تظهر تباعاً.
بعد إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة الأميركية، تأتي فرنسا كأعلى عدد للوفيات في العالم جرّاء الفيروس، وفيها ما يزيد على 86000 حالة إيجابية. الضحايا في صفوف الطواقم الطبية مُرتفعة أيضاً. يقف هؤلاء في مُقدّمة المُتصدين للوباء، ولكنّهم أشبه بجيش مُجرّد من العتاد. الكمامات الموضوعة في متناول أيديهم، هي أقنعة الجراحة العادية، بسبب ندرة الأقنعة من نوع «FFP2» الفعّالة. الطلب المُتزايد على الكمامات وانتشار الفيروس عالمياً، قد يكون عاملاً «مُبرّراً» للنقص، ولكن في فرنسا المُشكلة «ذاتية» قبل أن تُصبح أزمة «عرض - طلب».

ليست أزمة «عرض وطلب»
سنة 2005، وقّعت وزارة الصحة الفرنسية عقداً مع مصنع «بروتون» ليُصبح مُخصّصاً بالكامل لصناعة أقنعة «FFP1» و«FFP2». الإنتاج حُدّد بـ160 مليون قناع سنوياً، على أن يُساعد في تشكيل «الاحتياطي الاستراتيجي للأقنعة» في حال تفشّي جائحة. خلال أزمة فيروس «H1N1» عام 2009، كان المصنع يعمل بكامل طاقته، مؤمّناً حاجات الدولة، إلى أن بدأت مشاكله عام 2010، بعد أن لم تلتزم فرنسا العقد الموقّع. تمت تصفية المصنع في عام 2018، بعد أن اشترته شركة «هاني ويل» الأميركية ونقلت نشاطه إلى تونس. سبق ذلك، إلغاء وزيرة الصحة، ماريسول تورين، سنة 2013، المخزون الاستراتيجي للدولة من الكمامات، وبات على الشركات الخاصة والعامة أن تؤمّن مخزونها الخاص لحماية موظفيها. بدأت عملية «عضّ الأصابع» ندامة، بعد أن تمكّنت الأزمة من القطاع الصحّي الفرنسي، وتراجع الوضع في البلاد كثيراً. حالياً، بدأ البحث في إعادة تشغيل معمل «بروتون» لتأمين الحاجة المحلية. إلا أنّ ذلك، لن يُغطّي «فضيحة» أخرى.

«إيرباص» تحتفظ بالمخزون
شركة «إيرباص» للصناعات الفضائية والدفاعية الأوروبية تحتفظ بمخزون كبير من الأقنعة الوقائية، في وقت أنّ الدولة الفرنسية تُعاني من شحّ! بتحقيق لموقع «ميديا بار»، في بداية الشهر الجاري، نُشر تحت عنوان «الأقنعة: دليل على كذب الدولة»، أشارت إلى أنّه منذ بداية أزمة «كورونا»، قلّلت الحكومة من إمداد الشركات بالأقنعة للتمكّن من تلبية طلبات مقدمي الرعاية، من دون أن توقف ذلك نهائياً «حفاظاً على النشاط الاقتصادي»، وأنشأت الحكومة وحدة «لمساعدة الشركات على استيراد الأقنعة».
شركة «3 أم» المصنعة للأقنعة، كانت مُزودة من قبل الحكومة الفرنسية بـ«قائمة بالقطاعات التي يجب وضعها على رأس الأولوية، وكانت «إيرباص» حتى 25 آذار / مارس، في المرتبة الثانية، لتكون الدولة قد ساوت بينها وبين قطاعَي الغذاء والطاقة، علماً أنّ غالبية الطائرات لم تكن تطير بسبب إغلاق الحدود». دافعت الشركة في بيان عن نفسها بالقول إنّ «الاستهلاك يقتصر على ما هو ضروري للغاية لضمان سلامة الموظفين، التزاماً بتوصيات منظمة الصحة العالمية».
في 23 آذار / مارس أعلن الرئيس التنفيذي لشركة «إيرباص»، غيوم فوري على «تويتر» أنّ طائرة مُحملة بـ2 مليون قناع مستوردة من الصين ستهبط في فرنسا، و«ستُمنح أغلبيتها للحكومة». هل كان يُشير إلى أنّ باقي الشحنة ستكون مُخصّصة للاستخدام الخاص للشركة؟ فوري أكّد ذلك لـ«ميديا بار»، مُتحدّثاً عن «ضمان سلامة العاملين لدينا». كلامه أدّى إلى استنكار الرأي العام ووسائل الإعلام الفرنسية استخدام قافلة إنسانية «للتزود الخاص وبسرّية». وما يُثير النقمة أكثر، أنّ «ايرباص» تملك أقنعة «FFP2» و«FFP3»، مع إجبار الموظفين الذين يتعرضون لعوامل التلوث على تغييرها كل 4 ساعات، ما يعني استخدام آلاف من الأقنعة يومياً. علّق أحد الأطباء ساخراً على «تويتر» بأنّه «نحن لا نستطيع تبديل الأقنعة إلا بعد ساعات طويلة، كلّ 10 ساعات تقريباً، هذا إن وُجدت لدينا».
عشرات الملايين من الأقنعة تصل إلى الشركات الخاصة بمساعدة الحكومة

لجنة تحقيق لقضية «كوفيد - 19»
قام برلمانيون ينتمون إلى حزب «فرنسا المتمردة» اليساري، بتشكيل لجنة تحقيق لمتابعة قضية «كوفيد - 19»، بالتنسيق مع أعضاء في البرلمان الأوروبي، ولها ثلاثة أهداف:
- فهم الاختلالات التي أدت إلى الأزمات: في المستشفيات، وعلى المستوى الإنتاجي: الأقنعة وأجهزة التنفس والأدوية.
- دراسة إدارة الأزمة وتداعياتها على جميع المستويات: استمرارية خدمات الدولة، ظروف عمل موظفي الخدمة المدنية والموظفين في القطاع الخاص، احترام القانون في أوقات الطوارئ.
- التحضير لما بعد الأزمة
ويبدو أنّه سيكون أمام هذه اللجنة الكثير من العمل. فقد نشرت «ميديا بار» أمس تحقيقاً جديداً، ارتكز إلى شهادات ووثائق سرية، حصل عليها الموقع من مصادر رسمية ومن الشركات الخاصة، وأظهر أنّ:
- عمليات تسليم الأقنعة لا تتم إلا بنسبة 50٪ فقط. وبحسب الوتيرة المعمول بها، سيستغرق الأمر نظرياً عامين حتى تتمكّن فرنسا من تأمين الملياري قناع التي وعدت بها وزارة الصحة.
- في آذار / مارس، فوّتت الحكومة فرصة استيراد عشرات الملايين من الأقنعة، بما فيها نوع «FFP2»، وتوزيعها على مقدمي الرعاية، بعد أن أهملت عروض العديد من الشركات الفرنسية الموثوقة لاستيرادها. إحدى الشركات كانت قادرة على تأمين 20 مليون قناع باليوم، علماً أنّ الحكومة أعلنت في 21 آذار، عدم ضمّ مخزونها أكثر من 5 ملايين قناع.
- لا تزال استراتيجية الحكومة غير متناسقة، ففي وقت تُعاني الطواقم الطبية والصحية من الحاجة الماسة إلى الكمامات للحماية، لا تزال عشرات الملايين من الأقنعة تصل إلى الشركات الخاصة... بمساعدة الحكومة.
أمام تخاذل الحكومة الفرنسية في توفير الحماية لأطبائها وممرضيها، بدأ العلماء الفرنسيون في مدينة «نانت»، باختبار إعادة الاستخدام الآمن للأقنعة الجراحية و«FFP2». النتائج الأولى «مشجعة»، بحسب مدير الأبحاث في معهد «IMT» في «نانت»، لورانس لو كوك، الذي قال إنّه يتم استخدام ثلاث وسائل لمعالجة الأقنعة المُستعملة: «المعاجة عبر الحرارة، وعبر الإشعاع، والمعالجة الكيميائية».

الفرنسيون لا يثقون بحكومتهم
76% من الفرنسيين يعتقدون أنّ الحكومة كذبت عليهم حين قالت في البداية إنّه لا حاجة لارتداء الأقنعة. انعدام الثقة يُصيب أيضاً مناصري الحزب الحاكم، «الجمهورية إلى الأمام»، فيوافق واحد من اثنين على أنّ الحكومة كذبت بسبب النقص بوجود الكمامات. أدّى ذلك إلى الطلب من الناس في البداية، حماية أنفسهم عبر غسل اليدين، والاستخدام الفردي للمناديل، والتباعد الاجتماعي. حتّى أنّه في 16 آذار، خرج وزير الصحة، أوليفير فيران، ليُعبّر عن «استغرابه» من الأعداد الكبيرة للأشخاص التي ترتدي الأقنعة في الشارع، «علماً أنّ التعليمات لا تُشير إلى ذلك». أما في 17 آذار، فقالت المتحدثة باسم الحكومة، سيبات نديياي إنّه لا يُمكن للفرنسيين شراء الأقنعة من الصيدليات «فذلك غير ضروري إذا لم يكونوا مرضى... يجب أن تبقى أولويةً لمقدمي الرعاية»، في إقرار غير رسمي على فقدان الكمامات.
خطاب «عدم الهلع» الذي اعتُمد في مارس / آذار، «نَسَفه» الرئيس إيمانويل ماكرون في 31 ذاك الشهر، حين زار مصنع «كولمي هوبين» طالباً بلهجة حازمة: «نحتاج إلى 40 مليون قناع على الأقل في الأسبوع»، آملاً في نهاية العام أن تكون فرنسا قد أصبحت مستقلة تماماً لجهة صناعة الكمامات.
أما أول من من تجرأ على الحديث عن وجود «كذبة»، فكانت مقدمة «مجلة الصحة» على قناة «فرانس 5»، مارينا كاريير دانكوس. وصفت الطبيبة التعليقات الرسمية بعدم جدوى الأقنعة بأنّها «كذبة لسبب وجيه، وهو الاحتفاظ بالكمامات للأطباء». ثمّ أعلن أحد المسؤولين في وزارة الصحة أنّ «كلّ شيء يعتمد في الواقع على الكمية المتاحة. إذا كان هناك إمكانية للحصول على هذه الأقنعة، نٌشجّع عامة الناس على ارتدائها».
كيف برّر رئيس مجلس مجلس الوزراء، إدوارد فيليب، هذه الازدواجية في المعايير؟ ألقى باللوم على الأطباء الذين «لا يتفقون دائماَ مع بعضهم البعض، وهذا ما تمّت ملاحظته أيضاً في النقاش الدائر حول اعتماد دواء الكلوروكين أو لا».