لم توفّر أزمة كورونا أي دولة أو مجتمع حول العالم. تسبّبت أزمة انتشار الفيروس المستجدّ بشلل اقتصادي، وأظهرت تصدّعات في النظام المالي العالمي. أسواق الأسهم سجّلت، منذ أكثر من ثلاثة عقود، أكبر خسائر لها خلال الربع الأوّل من السنة. صندوق النقد الدولي يتوقّع تقلّص الاقتصاد العالمي بنسبة 3 في المئة هذا العام، مع انكماش اقتصاديّات البلدان في أنحاء العالم بأسرع وتيرة منذ عقود، ما قد يتسبّب بوضع أسوأ منذ «الكساد الكبير» في ثلاثينيات القرن الماضي. في الولايات المتحدة، تخطّى عدد العاطلين من العمل الـ22 مليوناً. أما أوروبا، فإن اقتصادها سيتقلّص بنسبة تفوق 10 في المئة في النصف الأول من العام الحالي، بحسب «بلومبيرغ». تطول قائمة الخاسرين جراء انتشار الفيروس، في حين أنّ الرابحين، مالياً، قلّة تتقدّمها شركات التجارة الإلكترونيّة الكبرى مثل «وولمارت» و«أمازون». مالياً، الرابح الأكبر هو أغنى رجل في العالم، مؤسّس شركة «أمازون» جيف بيزوس، الذي ازدادت ثروته بقيمة 24 مليار دولار أميركي (منها 6.4 مليار دولار يوم 14 نيسان وحده)، وبنسبة 20 في المئة في الأشهر الأربعة الأخيرة، لتصل إلى 138 مليار دولار.
أرقام أرباح «أمازون» مدهشة، إذ يُتوقّع أن تصل إيراداتها في الربع الأوّل من السنة إلى 73 مليار دولار، بزيادة 22 في المئة عن قيمة إيراداتها في الفترة نفسها من السنة الماضية. ووفقاً لصحيفة «غارديان» البريطانية، فإنّ الشركة باتت تسجّل أرباحاً بقيمة 11 ألف دولار كل ثانية! قيمة السهم ارتفعت بنسبة 42 بالمئة خلال الشهر الماضي، مسجّلةً سعراً قياسياً (2,400 دولار) الأسبوع الماضي، ما رفع قيمة الشركة إلى 1.2 تريليون دولار.
استفادت الشركة، التي دخلت سوق الشرق الأوسط عبر الاستحواذ على موقع «سوق» في العام 2017، من عوامل عدة، منها ما نشأ مع بداية الأزمة، لا سيّما إغلاق متاجر البيع بالتجزئة حول العالم.
ففي الولايات المتحدة وحدها، أُغلق أكثر من 250 ألف محل تجاري، حسب GlobalData Retail. خسارة هذه المتاجر تُعدّ مكسباً لشركات التجارة الإلكترونية، خصوصاً الكبرى منها. «أمازون»، وحدها، تمثّل ما نسبته 40 في المئة من مبيعات السوق الإلكترونية في الولايات المتحدة.
بداية الأزمة، استشرفت إدارة «أمازون» الزيادة التي ستحصل على طلبات التوصيل، وسارعت إلى استغلال الظروف المستجدّة لتزيد من مبيعاتها، ففتحت باب التوظيف لـ100 ألف عامل. ومع ازدياد الطلبات، أعلنت الأسبوع الماضي توظيف 75 ألف عامل جديد، ليرتفع عدد موظّفيها إلى قرابة مليون موظف.
لكن ارتفاع الطلب على خدمات «أمازون» في هذا الظرف العالمي الاستثنائي، أظهر توحّشها في تعاملها مع موظفيها أكثر من أي وقت مضى، لا سيّما أن النجاحات التي راكمتها منذ سنوات، أتت دوماً على حساب عمالها الذين يعملون في ظروف غير إنسانيّة.

نموذج «أمازون»
استفادت شركات الولايات المتحدة الكبرى من تداعيات الأزمة المالية منذ 2008، عبر اعتمادها على جيش من المتعاقدين الذين يعملون خارج إطار قوانين العمل، ما أعفاها من إلزاميّة تأمين حقوقهم، مثل التعويض عليهم في حال تعرَضهم للإصابة أثناء قيامهم بعملهم. منذ 2015، سجّل ما يزيد على 100 دعوى قضائية ضد «أمازون»، رفعها متضرّرون من حوادث أدّت إلى مقتل ستة أشخاص على الأقل. ومن المُرجّح أن يكون عدد الحوادث أكبر بكثير، إلا أنّ العديد من المتعاقدين يعملون بشكل غير مباشر لصالح «أمازون»، عبر شركات طرف ثالث، من دون أن يعلموا ذلك (ما يدفعهم إلى تقديم شكاوى ضد هذه الشركات عوضاً عن توجيه الشكاوى ضد «أمازون»).
الشركة تربح 11 ألف دولار في الثانية في ظل أزمة الوباء


أما ظروف العمل في مستودعات «أمازون» فهي «مأسوية»، وفق ما كشفه الصحافي جيمس بلودوورث، في مقال نشرته «غارديان» في أيلول 2018، راوياً تجربته في العمل كصحافي سرّي في أحد مستودعاتها في بريطانيا. خرج بلودوورث بانطباع أن تلك المستودعات عبارة عن سجن كبير للعمّال، إذ كان من بين 1,200 عامل، مهمّتهم السير ذهاباً وإياباً في الممرات الضيقة لاختيار السلع المطلوبة عن رفوف يصل ارتفاعها إلى ثلاثة أمتار، خلال دوام عمل يصل إلى 10 ساعات ونصف ساعة، يقطع خلالها العامل مسافة تقارب 24 كيلومتراً (مساحة 10 ملاعب كرة قدم).
في مقال آخر نشرته مجلة «تايم»، قالت العاملة إميلي غونديلسبرغر إنّها احتاجت إلى أسبوعين كاملين من الراحة حتى تتخطّى الإرهاق الجسدي والنفسي الناتج من العمل في مستودعات الشركة. من جهتها، وجدت مجموعة «أورغانايز» النقابية أنّ 74 في المئة من عمّال المستودعات يخافون الذهاب إلى المرحاض خلال دوامهم، خشية الإخفاق في الوصول إلى الأهداف المرتبطة بالإنتاجية وتسجيل نقطة سوداء في ظلّ نظام انضباط شديد القسوة. إلى ذلك، يُحتسب «التحدّث إلى الزملاء» وقتاً ضائعاً، ويطرد الموظفون تلقائياً، بعد حصولهم على ست نقاط.
أما بالنسبة لأيام الإجازات، فهي محدّدة بعشرة أيام غير مدفوعة، وهو ما ينطبق على المتعاقدين والمثبّتين على حدٍّ سواء.

كورونا يزيد من قسوة الشركة
إلى هذا كله، منعت «أمازون» عمّالها في السنوات الماضية من الاتحاد ضمن مجموعة نقابية تمثّلهم داخلها. ومع اندلاع أزمة كورونا، طلبت «أمازون» من موظفيها العمل من منازلهم تفادياً لانتقال العدوى. غير أنّ هذا الإجراء لم ينسحب على عمّال المستودعات والتوصيل والسائقين، واكتفت الإدارة بالطلب منهم أن يحافظوا على «مسافة آمنة» في ما بينهم، ما قد يعرّضهم إلى مخاطر صحيّة ويزيد من قسوة ظروف عملهم.
وسرعان ما انتشر كورونا في مستودعات «أمازون». اعترفت الشركة بتسجيل أول إصابة بين عمّالها في مستودع بحيّ كوينز في نيويورك في 18 آذار الفائت. بعد أقل من أسبوعين، أكدت تقارير صحافية أن الفيروس انتشر بين عمّال 19 مستودعاً في الولايات المتحدة، إضافة إلى مستودع في فلورنسا الإيطاليّة. ومنذ أقل من أسبوع، أعلنت الشركة إغلاق مستودعاتها الستة في فرنسا، رداً على قرار قضائي ألزمها توصيل المنتجات الأساسية فقط.
في غضون ذلك، تحرّك عدد من عمّال «أمازون» اعتراضاً على تجاهل الشركة للأخطار الجديدة التي تتهدّد صحتهم. في نيويورك، قاد كريستيان سمولز اعتصاماً لزملائه خلال ساعة الغداء، وجُلّ ما طلبوه أن تقوم الإدارة بإغلاق المبنى الذي يعملون فيه مؤقتاً وتعقيمه ودفع أجور العمّال المصابين بالفيروس.
طُرد سمولز من عمله فوراً، وكذلك أقالت الشركة عاملاً ومهندسين لاحتجاجهم على استخفاف الشركة بعمّالها وفشلها في حمايتهم من كورونا. انتشرت قضية سمولز سريعاً في الصحافة مما أحرج إدارة الشركة، لكنها لم تبادر إلى حلّها أو لفلفتها، وفق رسالة مسرّبة للمستشار العام للشركة ديفيد زابولسكي، نشرها موقع «فايس»، قال فيها إنّ «أمازون» تبقى في موقع القوة أمام الرأي العام ما دامت سردية الإعلام تضع سمولز في مواجهة الشركة، واصفاً العامل بأنه «ليس ذكياً وليس متحدثاً جيّداً».

محاولات تلميع الصورة
أعطت «أمازون» لكل عامل في مستودعاتها في الولايات المتحدة وكندا علاوة مؤقتة، بقيمة دولارين على الأجر الذي يتقاضاه في الساعة، لفترة بين 15 آذار و9 أيار. لم ترفع الشركة أجور عمّالها كرمى لعيونهم، بل كي تتمكّن من التعامل مع الزيادة الهائلة في عدد الطلبات (وصل إنفاق الزبائن على المنصة إلى 11 ألف دولار في الثانية خلال الأسبوع الثاني من نيسان).
ترافق ذلك مع تبرّع جيف بيزوس بـ100 مليون دولار لبنوك الطعام الأميركية، الأمر الذي أعطى نتيجةً عكسية، إذ تعرّض لانتقادات لتبرّعه بمبلغ يمثل أقل من 0.1 في المئة من ثروته. حاولت الشركة تلميع صورتها مراراً، من خلال إصدار بيانات عدة تؤكد فيها أنها تضع سلامة عمّالها في أعلى سلّم أولوياتها.
محاولات «أمازون» لصرف النظر عن ممارساتها المروّعة بحق عمّالها ليست جديدة. فمنذ سنوات، تستعين، مثل غيرها من الشركات العالمية الكبرى، بكل أدوات الدعاية الحديثة، بهدف إعطاء انطباع إيجابي عن ثقافة العمل فيها. فهي «لا ترهق الموظفين، بل تحفّز روح المبادرة فيهم» مثلاً... هذا أحد المبادئ «القياديّة» الـ14 المطليّة على الجدران والمكتوبة في منشورات موزّعة حتى في مراحيض مقرّها في سياتل.
للوهلة الأولى، تبدو المنشورات وكأنها تضخّ طاقة إيجابية في مكان عمل مفعم بالسعادة والعدل، يسمح للجميع في الصعود من أسفل الهرم الوظيفي إلى أعلاه، والامثلة عديدة: «لا تقُل أبداً هذه ليست وظيفتي»، «تفحّص قناعاتك الأكثر رسوخاً بتواضع»، «لا تساوم من أجل التماسك الاجتماعي»، و«التزم بالتفوّق حتى لو اعتقد الجميع أنّ هذه المعايير خيالية».
ولكن، إذا انطلقت من واقع ظروف العمل المريعة في «أمازون»، ستقرأ هذه الرسائل بنفس آخر: لا يجوز لك أن ترفض أي عمل يُطلب منك، ليس مسموحاً أن تتمسّك بقناعاتك، اهتمّ بمصلحتك أولاً وأخيراً، التجمّعات النقابية ممنوعة، إعمل وفق معاييرنا «الخياليّة» من دون أي تذمّر.
المصطلحات المنمّقة لا تعني شيئاً على أرض الواقع – فعندما عادت موظفة إلى العمل، بعد تعافيها من سرطان الثدي، وضعت الإدارة لها «خطة لتحسين الأداء»، وهي عبارة تستخدمها الإدارة مع قواها العاملة لتحذيرهم من أنّهم مهدّدون بالصرف. أما حجة اقتراب الإدارة من فصل الموظفة، فكانت أنّ الصعوبات التي تواجهها في «حياتها الشخصية» قد شوّشت على تحقيقها أهدافها المهنية في الشركة، حسب تحقيق نشرته جريدة «نيويورك تايمز» عام 2015.
هذه شروط العمل في مستودعات «أمازون» – المستودعات التي تطلق عليها الشركة إسم «مركز تحقيق الإنجازات». التسمية تصحّ إذا حُدّد معنى الإنجاز بتعاظم ثروة جيف بيزوس.

اقرأ أيضاً: اختراق هاتف مالك «أمازون»: الدلائل تُثبت تورط ابن سلمان