الإقالة غير الشعبّية خفضت نسبة التأييد لبولسُنارو، وسط مخاوف طبية من خروج الوباء عن السيطرة، خصوصاً بعد تولّي المثير للجدل، نيلسون تايش، مقاليد الوزارة. خروج مانديتا من الحكومة بهذه الطريقة لم يكن مكسباً لبولسُنارو، بل يتحدّث مقرّبون من الأخير عن أن القرار الرئاسي جاء متسرّعاً وأسدى خدمة جليلة للمعارضة التي احتضنت الوزير كبطل وطني قايضَ منصبه بحياة مواطنيه. وعليه، فقد الرجل ورقة رابحة كانت ستخدمه في المستقبل القريب، من حيث الشكل الذي يؤكّد التعددية داخل الحكومة، وفي المضمون قطاف إنجازات مانديتا في وقت تحتاج فيه «البولسُنارية» السياسية إلى مكاسب شعبية من جرّاء الانهيار الاقتصادي المتسارع، وفقد العملة المحلية نصف قيمتها تقريباً في عهد اليمين المتطرف.
ثمة أسئلة كثيرة تُطرح حول دور المؤسسة العسكرية في إفشال بولسُنارو
ولم يجف حبر قرار تنحية وزير الصحة، حتى أتت استقالة وزير العدل لتضاعف الأزمة الداخلية للتكتّل الحاكم الذي بات يواجه خطر إقالة الرئيس بعدما راكم الأزمات المتتالية ودخل في مواجهة غير صائبة، وفي توقيت شديد الحساسية. في تفاصيل المواجهة، كشف مورو عن ضغوط تعرّض لها لإقالة المدير العام للشرطة الفدرالية، ماوريسيو فاليخو، وتعيين مدير الاستحبارات، ألكسندر راماجيم، بدلاً منه. اتهامات أسندها بعرض المحادثات الهاتفية التي أثبتت تدخل بولسنارو في التعيينات الأمنية. وسرعان ما رد الأخير على الاتهامات، كاشفاً عن مقايضة تعيين الوزير في المحكمة العليا، مقابل موافقته على الاسم المقترح لترؤّس الأمن العام. فضائح استدعت سيلاً من المطالبات الحزبية والنقابية بتنحية بولسنارو بتهمة خرق الدستور والتمادي في المخالفات التي تهدّد الديموقراطية. وفوراً، تلقّف قاضي المحكمة العليا، سيلسو دي ميلو، الدعاوى لمباشرة التحقيق. لم يكترث الرئيس للصخب السياسي من حوله، بل لجأ إلى خطوة استفزازية إضافية تمثّلت في إعلان نيته إسداء وزارة العدل إلى صديق العائلة، وزير الشؤون الرئاسية، جورجي أوليفيرا. في النتيجة، يبدو بولسنارو واثقاً بقدرته على التحكّم في إدارة اللعبة، متجاهلاً حقيقة «استقلال» الولايات عن القرارات الفيدرالية، ولجوء الحكام إلى السياسات المستقلة، أقله في الملف الصحي، وهذا ما يشير إلى تطوّر خطير في تفكك الحكم، وتشتّت المؤسسات الدستورية التي باتت عاجزة عن فرملة الانهيارات المتتالية.
إلى أين يتجه المشهد؟ في جردة الحساب الأولية، أخفق جايير بولسنارو في إدارة بلاده، على رغم الزخم الشعبي والسياسي والتفاف تكتُّل اليمين والعسكر حوله. فالرئيس الآتي من خارج الطيف السياسي التقليدي لم يستطع تحقيق إنجاز اقتصادي أو سياسي على مدى عام ونصف من حكمه الذي تخلّلته عشرات المواجهات مع أركان الحكومة والبرلمان ومجلس الشيوخ وحكومات الولايات والمحكمة العليا، حتى بات الرجل يقاتل منفرداً بعدما تخلّى عنه حزبه وبعض رفاق دربه الذين انبرى عدد منهم إلى التوقيع على عريضة إقالته. فشلٌ آخر لبولسُنارو تمثّل في المغامرة بعلاقات بلاده الخارجية، إذ خسرت البرازيل حلفاءها التقليديين دفعة واحدة، مقابل تقارب ودّي مع الولايات المتحدة من دون مفاعيل اقتصادية أو سياسية تُذكر.
أسباب الفشل «البولسُناري» قد تكون أعمق مِن ظاهرها، كما يردّد مقرّبون من القصر، وثمة أسئلة كثيرة حول دور المؤسسة العسكرية في إفشال الرجل، أو تركه ينازع على أقل تقدير، وهل جاء دفعه نحو السيطرة على المراكز الأمنية الحساسة بإيعاز من القيادة الخلفية، أم أنها خطأ في الحسابات الرئاسية؟ شكوك كثيرة تثار في الأروقة المغلقة حول أسباب خروج مورو في هذا التوقيت وإخراج الأسلحة الثقيلة لمواجهة الرئيس المنهك أصلاً. لكن المواقيت الدستورية قد تفي في الإجابة عن بعض التساؤلات، خصوصاً أن المرحلة المقبلة التي قد تشهد عملية عزل بولسُنارو ستكون كافية لإتمامه العامين في الحكم، وهو ما يعطي نائب الرئيس، الجنرال هاميلتون موراو، الفرصة لتسلّم كرسي الرئاسة، وعودة الجيش إلى السيطرة على البلاد بعد ثلاثة عقود ونيف من غيابه.