مرّت ثلاث سنوات ونصف سنة على غياب باراك أوباما، وأقلّ من أسبوعين على انبعاثه؛ إعادة إحياء الرئيس السابق لم تكن مصادفة، إذ تشكِّل بالنسبة إلى «الديموقراطي» ومرشَّحه جون بايدن ورقةً أخيرة رابحة. ورقةٌ يعرف الحزب جيداً أنها كفيلة باستفزاز دونالد ترامب، وإخراجه عن أطواره أكثر، لجعل السباق الرئاسي المقبل ذا معنى، بمتنافسَين يتخبّط أحدهما لنفض وباءٍ أرهق ولايته، بينما يلتزم الثاني منزله في انتظار معجزة تجيء به إلى البيت الأبيض: تحويل رئاسيات 2020 إلى مواجهة نهائيّة بين أوباما وترامب.شّيد الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، سورَ دعمٍ يحمي فيه مرشح الحزب الديموقراطي جو بايدن، مرةً أخيرة، لعلّه بذلك يعزّز فرص نائبه السابق في انتخابات حاسمة تُعدُّ اختباراً لأداء الرئيس دونالد ترامب في أشهر الوباء. لا يمكن قراءة اقتحام الرئيس السابق مشهد الانتخابات في هذا التوقيت بمعزلٍ عمّا سلف، فضلاً، بالطبع، عن فشل «الديموقراطي» في تسويق مرشّحٍ كسول، وإن كان يمثّل «عصب» المؤسسة التقليدية. وفي غياب استراتيجية واضحة لهزيمة رئيس تداعت ولايته الأولى في خواتيمها بعدما ظهر عليها «عدوّ غير مرئي»، يمكن فهم توقيت إقحام أوباما.
لم تكن الحياة السياسية في الولايات المتحدة بهذا الهزل؛ جاء الوباء كهدية مجانية لخصوم رئيسٍ تميّز بإتقانه موهبة تحويل الانتباه من تداعيات الأزمة الصحية إلى ابتداع قضايا تلهي الجمهور قليلاً: تارةً بتحميل الصين مسؤولية ما آلت إليه الأمور، وطوراً باتهام «منظّمة الصحة العالميّة» بالتواطؤ مع بكين في إخفاء الحقائق، وليس انتهاءً باستحضار أوباما بتكثيف الهجوم ضدّه، والانتقال عبره إلى جلّ ما يهمّ ترامب راهناً: أربع سنوات إضافية في البيت الأبيض.

الجريمة الغامضة
لم تقتصر آثار الوباء على شلّ الاقتصاد وحصد ما يزيد على 92 ألف شخص وأكثر من مليون ونصف مليون إصابة. اهتزّت الحياة السياسية، فتبدّدت ثوابت كانت حاكمة قبل «العزل الكبير»، حتى إن المواجهة بين ترامب وبايدن اتّخذت منحى غير مسبوق. بات الثابت الوحيد أن الوباء الذي جمّد الحملة الانتخابية لكلا المرشَّحَين عزّز توجّهاً كان يرتسم في الأفق، وهو أن انتخابات الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر ستكون بمكانة استفتاء على ترامب.
في مواجهة كل تلك العقبات، اختار الرئيس، أخيراً، هدفاً جديداً لهجماته: أوباما. هدفٌ يعتقد أنه يشكِّل الورقة الرابحة الأكبر في يد خصمه بايدن، ولا سيّما أن شعبية الرئيس السابق لا تزال في أعلى مستوياتها. وعد ترامب بكشف معلومات حول ما أطلق عليه «أوباماغيت»، من غير أن يوجّه اتهاماً ملموساً إلى سلفه، مكتفياً بالقول: «تعرفون ما هي الجريمة. هذه الجريمة واضحة للجميع»، قبل أن يطلب مِن الكونغرس التحقيق في «جريمة» يبدو أن أحداً غيره لا يعرف ملابساتها.
نشرت «مكتبة أميركا» أخيراً مجموعة من كتابات المؤرّخ في جامعة كولومبيا ريتشارد هوفستادتر. مجموعةٌ تتضمّن، كما أوردت مجلة «نيويوركر»، دراستين كاملتين نُشرتا في أوائل الستينيات: «مناهضة الفكر في الحياة الأميركية»، و«جنون العظمة في السياسة الأميركية». عبرهما، سعى هوفستادتر إلى فهم ميول قادة اليمين، أمثال السيناتورين جوزف مكارثي وباري غولدووتر، وانتشار الكراهية تجاه أصحاب الخبرة، فضلاً عن احتضان نظريات المؤامرة. وخلص إلى أن البلاد «ساحة للعقول الغاضبة».
حوّل ترامب الانتباه من تداعيات الأزمة الصحية إلى قضايا تلهي الجمهور


يمكن إسقاط ذلك على الراهن، عبر سلسلة ترامب: «الدولة العميقة»، و«أعداء الشعب»، وصولاً إلى ابتكار «أوباماغيت». ربّما يأمل الرئيس الذي بدأ حياته السياسية بنظرية مؤامرة تشكِّك في أصول أوباما وشهادة ميلاده أن يطيلها بأخرى جديدة. لوقت طويل، ساهم في الترويج لفكرة أن أنتونين سكاليا (القاضي المحافظ في المحكمة العليا) ربّما قُتل في سريره، وأن طواحين الهواء تسبّب السرطان، وأن تزوير الناخبين كلّفه التصويت الشعبي في انتخابات 2016، وأن اللقاحات ربمّا تسبّب التوحُّد، وهو ينتظر إنتاج واحد الآن يُعدُّ أمله الوحيد للفوز بولاية ثانية.

هاجس ترامب
في مذكّراته بعنوان «الصفّ الأمامي لعرض ترامب»، كتب جون كارل تعليقاً على لقاء جمع أوباما بالرئيس المنتخب، ترامب، في المكتب البيضاوي: «صدمتني لغة جسد ترامب... كنت أرى جانباً منه لم أره من قبل. بدا، صدّق أو لا تصدّق، متواضعاً». كان ذلك في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، ولمرّة واحدة فقط. يومَذاك، لم يكن ترامب بعد مسؤولاً عن الغرفة، ولكنّه «بدا مذهولاً قليلاً»، و«خائفاً بعض الشيء». ما ناقشه الرجلان في لقائهما (الوحيد) لا يعرفه أحد سواهما. لكن بعد مضيّ كل هذا الوقت، يمكن القول إن أوباما لا يزال يشكِّل هاجساً لترامب، أو عقدة نقص سياسية، وربّما شخصيّة. بعيداً من المنفعة التي قد يجلبها الهجوم المتبادل، هناك كراهية متأصلة اتّضحت معالمها على امتداد ولاية ترامب الأولى. الرغبة الشديدة في محو إرث أوباما يمكن تحليلها كقوّة محرّكة للسياسة الخارجية التي تنتهجها هذه الإدارة (الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، إلى اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، واتفاق باريس للمناخ ثمّ قانون الرعاية الصحية).
يُقال أن القصة بدأت في عشاء لمراسلي البيت الأبيض لعام 2011، حضره الرئيس الحالي. سخر أوباما من طموحات ضيفه لدرجة أنه أشار إلى صورة معدّلة لبيت ترامب الأبيض مع فندق وكازينو وملعب غولف وأعمدة ذهبية. مزّق ترامب عدداً من المعايير، رافضاً الحفاظ على اتصال محترم مع سلفه، بينما اختار الأخير بعناية توقيت إدانة قرارات أو سياسات خلفه دون أن يأتي على ذكره بالاسم. واشتعلت التوترات لدى تسريب اتصال أجراه الرئيس السابق عبر الإنترنت مع أشخاص عملوا في إدارته، حين وصف طريقة تعاطي ترامب مع الوباء بالكارثية: «كان الأمر سيكون سيئاً حتى بوجود أفضل الحكومات. (لكنه) كان كارثة فوضوية تماماً عندما تدار حكومتنا بعقلية: ما الذي سأجنيه من ذلك؟ وليذهب الباقي إلى الجحيم». ثم انتقد الاستجابة لـ«كوفيد ــ 19» لأنها كشفت أن «العديد من المسؤولين لا يحاولون حتى التظاهر بأنهم مسؤولون».