الانتفاضة استمرارية للنضال ضد العبودية والاستعمار
منذ مقتل جورج فلويد خنقاً من قبل شرطي أميركي، تشهد الولايات المتحدة على النطاق الوطني موجة احتجاجات واسعة، يؤجّجها أيضاً انكشاف ضخامة الفوارق الاجتماعية على خلفية جائحة «كورونا». الأفارقة الأميركيون الذين يعانون تاريخياً من الاضطهاد العرقي وامتهان الكرامة، هم إضافة إلى ذلك أوّل ضحايا الجائحة، ما يفسّر برأي الفيلسوف نورمان أجاري، أستاذ الفلسفة في جامعة فيلانوفا في فيلاديلفيا، ومؤلف كتاب «الكرامة أو الموت»، جذرية الحركة الاحتجاجية الحالية في الولايات المتحدة.
في نظر نورمان أجاري، تمثّل الاحتجاجات اليوم في الولايات المتحدة انتفاضة جماهيرية للمجتمع المدني الأسود، رغم أن «التجارب السياسية والاجتماعية لمكوّنات هذا المجتمع متباينة جداً. هناك فارق بين الأوضاع السائدة في جنوب الولايات المتحدة، الذي كان المعقل التاريخي للفصل العنصري الأكثر فظاظة، وبين الشمال، حيث تتجلّى العنصرية أحياناً بأشكال أقلّ حدّة».
وفقاً لأجاري إلى جانب حركة «حياة السود مهمّة»، المشاركة بقوّة في الحراك الراهن وبأشكال مختلفة حسب المناطق، وجماهير السود، وغالبيتهم من الشبان، تنظيماتٌ بيضاء. وهو يضيف أن «غالبيتها من اليسار الجذري، ماركسية أو ذات توجهات ثورية أو حتى إصلاحية جذرية». جميع التنظيمات، بما فيها البيضاء، التي تشارك الأفارقة الأميركيين نضالهم، تعي بأنها تُسهم في مشروع فكري-سياسي، واجتماعي، يهدف إلى تغيير النظام القائم. ويعتبر أجاري أن السمة الرئيسية للاحتجاجات اليوم هي أن الأفارقة-الأميركيين لا يطالبون بالاعتراف بهم كمواطنين عاديين، أسوة بالبيض: «فرضيتي، والمنظور الذي انطلق منه لفهم التطورات، هي أن السود لا يستطيعون سوى أن يكونوا أنفسهم. هم يعيشون في مجتمع يذكّرهم في كل لحظة بلون بشرتهم، ويعني ذلك أنهم غير قادرين على الاندراج في مشروع انصهاري ليصبحوا بشراً كالآخرين، أي بيض. الخيار الوحيد المتاح لهم هو التمسّك بهوّيتهم السوداء وتعبئة الموارد المعنوية والتاريخية العميقة التي تختزنها، أي مجمل الأحداث التاريخية التي دافع فيها السود عن كرامتهم في الولايات المتحدة وجزر الكاريبي، وكذلك في أفريقيا. ما يجري اليوم هو استمرار لتاريخ النضال ضد العبودية والاستعمار. فتاريخ النضال الجذري ضد العبودية من سماته البارزة رفض السود مساومات رخيصة للحصول على بعض مطالبهم من القوى المسيطرة. على العكس من ذلك، كانوا يجتاحون شوارع المدن للمطالبة بتغيير جذري للمجتمع». ويشير أجاري إلى خصوصية شعار «حياة السود مهمّة»، بدلاً من شعار «كل حياة مهمّة» مثلاً، المرتبطة بتاريخ الأفارقة الأميركيين في الولايات المتحدة، الذين عانوا من العبودية والإذلال ونزع الصفة الإنسانية عنهم.
مطلب السود المركزي هو التغيير الجذري للنظام


هناك بالفعل موروث بنيوي للعنف الأحادي ولتدمير الآخر في الثقافة الأميركية، على صلة بنشأة هذه الدولة كنتاج للاستعمار الاستيطاني ولإبادة السكان الأصليين، له أثر كبير على المخيال السياسي. «مخيال البيض الذي كان مسكوناً بفرسان كوكلوس كلان في الماضي، وبالشرطة والحرس الوطني ومتطوعي الجيش اليوم يستبطن كذلك عملية إبادة السكان الأصليين وتطويع السود للتحكم الكامل بالبلاد والسكان».
لكن المشكلة لا تقف عند كراهية السود، وهي بين مرتكزات المخيال الحربي العنيف للشرطة الأميركية، بل هي تتعداها إلى الإمكانات والتجهيزات المقدمة لها. «في سنة 1997، قام بيل كلينتون بتمرير قانون سمح بتجهيز الشرطة الأميركية، بما فيها تلك المتواجدة في البلدات الصغيرة، بأسلحة حربية فائضة كانت في مخازن الجيش. نحن اليوم في مواجهة شرطة هي أشبه ما تكون بالجيش نتيجة لمستوى تسليحها وتجهيزها، وكذلك للتدريبات العسكرية التي تخضع لها ما يعزّز ميلها إلى العنف المفرط. عندما تلتقي عناصرها المشحونة أيديولوجياً، والتي تستسهل اللجوء إلى الأسلحة الحربية، بأشخاص غير بيض، هي تعتبر أنها في مقابل أعداء لا مواطنين، وأن المطلوب هو التخلّص منهم. هذا هو المنطق الذي يحكم أفعال أجهزة الشرطة الأميركية المختلفة»، برأي أجاري. للتصدي لكراهية السود المتجذّرة في عمق المخيال السياسي والبوليسي الأميركي، تتزايد المجموعات المطالبة بتفكيك، أو على الأقل نزع سلاح أجهزة الشرطة وتنظيم نمط من الأمن الذاتي للأفارقة الأميركيين. «من الطبيعي عندما تتحول الشرطة من جهاز حماية إلى قوّة احتلال يصبح المطروح ليس إصلاحها بل التخلّص منها. ينبغي التوصّل إلى تصوّر لنمط ديمقراطي في إدارة الصراعات غير تلك السلطة الغاشمة، أي الشرطة، التي لا تسعى لمساعدة الأفارقة الأميركيين على حلّ مشكلاتهم بل تعتبر أنهم المشكلة. من الطبيعي البحث عن مخرج جذري من هذا الوضع»، يختم الفيلسوف أجاري.