لم يعد الأول من الشهر المقبل موعداً مرجّحاً لتنفيذ خطة الضم في الضفة المحتلة، بعدما باتت مادة تجاذب إسرائيلياً، بل تنذر بسيناريوات متطرفة داخلياً. أما الإدارة الأميركية، صاحبة القرار النهائي في الضم، فأدى موقفها وشروطها، نتيجة العوامل الداخلية في واشنطن، إلى التشويش على الخطة، وربما أيضاً تجويفها. الغريب ــ المعتاد أن السلطة الفلسطينية ودول «الاعتدال العربي» وكذلك دول التسوية لم تكن من الأسباب التي دفعت إلى فرملة خطة الضم كما أعلنها رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، بعيد إطلاق «صفقة القرن» الأميركية. إنما الأسباب التي تشوش على الخطة وتؤجل موعد تنفيذها، بل يمكن أن تنهيها على فرضيات باتت معقولة، مرتبطة بالتجاذب الداخلي في الولايات المتحدة وقرب الانتخابات الرئاسية، ومن ثمّ تحولها إلى مادة إضافية بين المتنافسين.فوق ذلك، اشتراطُ الإدارة الأميركية، الذي يبدو ثابتاً إلى الآن، أنّ أيّ قرار يتعلق بالضم، سواء في التوقيت أم في المضمون، يجب أن يكون بموافقة حزب «أزرق أبيض»، سمح للتجاذبات الداخلية الإسرائيلية بأن تكون أكثر تأثيراً في قرار الضم، بعد السماح للثنائي، وزير الأمن بيني غانتس، ووزير الخارجية غابي أشكنازي (قطبا الحزب)، بوضع حدّ لانفراد اليمينية الإسرائيلية باتخاذ القرارات، إذ اشترط الاثنان ما يحول دون الضم كما كان مطروحاً في البداية. وواحد من أهم ما برز في الأسبوعين الماضيين أن هامش مناورة غانتس ــ أشكنازي بات أوسع مما كان، فصارا قادرين على فرملة أجندات اليمين واستراتيجياته السياسية، ومن شأن ذلك التشويش على وحدة اليمين، بل على شخص نتنياهو نفسه. في الخلفية، الواضح أن الولايات المتحدة هي صاحبة القرار النهائي بشأن الضم، سواء ما يتعلق بمضمونه وشموله أم بتوقيت إعلانه وكيفية تنفيذه. وهي بطبيعة الحال لا تفرض موقفها على المؤسسة السياسية في تل أبيب مباشرة، بل تضع شروطاً مسبقة يتعذر على الأخيرة تجاوزها، كي تعترف واشنطن بالقرارات الإسرائيلية، ومن بينها الاعتراف بالضم الذي يأتي هنا بمعنى التصديق. وهذه الشروط كافية لإيصال الواقع الإسرائيلي إلى اتخاذ القرارات كما يحددها الأميركيون مسبقاً.
لكن واحداً من أهم الاعتبارات التي بلورت القرار الأميركي إزاء الضم، ودفعت إلى المطالبة بشبه إجماع سياسي في إسرائيل، هو تداعيات الضم في الساحة السياسية الأميركية بين الحزبين، الديموقراطي والجمهوري، وتحوله إلى مادة سجال على عتبة الانتخابات. كما أن الساحة الأميركية شهدت تدخلاً من اللوبي الإسرائيلي «أيباك» الذي أذن للديموقراطيين بانتقاد خطة الضم وتداول الموقف السلبي منها، من دون أي إجراء يضر بتل أبيب. كذلك، ترى الإدارة الأميركية، على خلفية انتخابية، أن الإجماع الإسرائيلي على أي خطة، مقلصة أو واسعة، دفعة واحدة أو بالتدرج، يتيح الرد على الديموقراطيين وانتقاداتهم، ومنعهم من اتهام الرئيس دونالد ترامب بأنه دفع أجندات فئة إسرائيلية دون أخرى. هكذا، يهدف اشتراط موافقة «أزرق أبيض» إلى تجويف الدعاية الديموقراطية. على هذه الخلفية تحديداً، تتمسك إدارة ترامب، التي يعبر جاريد كوشنر عن موقفها الفعلي، بضرورة الإجماع الإسرائيلي، وأيضاً التدرج وتقليص البقعة الجغرافية المنوي ضمها. وللمفارقة، يأتي هذا الموقف على نقيض رأي السفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، الذي مع أنه ينفذ في نهاية المطاف ما يطلب منه، فإنه يتبنّى «الضم السريع والواسع»، على خلفية عقائدية مسيحانية يهودية.
تنبع اشتراطات واشنطن من قرب الانتخابات الرئاسية وتأثير الدعاية الديموقراطية


هذه التطورات يدركها نتنياهو جيداً، بل بات يدرك أنه استعجل تحديد موعد الضم الشامل كما تقرر لديه الأول من الشهر المقبل، لكنه يعلم أن أي تأجيل للموعد الذي حدّده يُعدّ فشلاً شخصياً، وستكون تداعياته أكبر وأوسع قياساً بتداعيات تراجعه عن «خطوات الضم» التي سارع إلى إعلانها حينما أعلن ترامب بنود «صفقة القرن» بداية العام الجاري. من جرّاء ذلك، يتزايد حديث نتنياهو عن أنه شخصياً مع الضم الكامل لـ30% من الضفة، بما يشمل المستوطنات وغور الأردن، دفعة واحدة، مطلع الشهر المقبل. وما يعترض ذلك هو الموقف «المتذبذب» وغير الواضح لغانتس وأشكنازي، وهذا ما قاله نصاً في جلسة حزب «الليكود» أخيراً، بل عمد إلى تسريبه لاحقاً، وهو ما سيكرره في الأيام المقبلة ما لم تطرأ تطورات من شأنها تغيير المعادلات. في الوقت نفسه، يضغط نتنياهو عبر تصريحات ليكودية تجاه فرط الائتلاف وانتخابات مبكرة رابعة تتيح له، كما تؤكد استطلاعات الرأي، الفوز الكاسح فيها، وتأليف حكومة يمينية صرفة من دون أحزاب وسطية أو يسارية.
في النتيجة، ترتبط هذه التصريحات بالضم، وهي مخصصة لدفع غانتس إلى تليين موقفه من جملة ملفات عالقة بين الجانبين، وفي المقدمة التراجع عن شروط وضعها لخطة الضم. مع ذلك، لا يعد التهديد غير المباشر بإنهاء الائتلاف مع «أزرق أبيض» مجرد ضغط صرف ضمن حرب نفسية، بل هو إلى جانب ذلك خيار فعلي مطروح على طاولة القرار الليكودي، وجزء من سيناريوات باتت معقولة، ولا يبعد أن يتفاعل لاحقاً مع عوامل أخرى ليدفع نحو انتخابات رابعة، وإن كان من المبكر الحديث عن سيناريو متطرف في هذه المرحلة. فما ورد يفسّر كلام نتنياهو في جلسة حزبه رداً على أسئلة أقطابه، حينما قال: «أنا لا أعرف ماذا يريد أزرق أبيض. يمكن أنهم يؤيدون ضمّاً جزئياً»، الأمر الذي كرره خلال حديثه مع مجموعة من العسكريين في الاحتياط، أكد فيه بصورة غير مباشرة «ذنب» حزب غانتس في تشويش الضم الذي يؤيده كما وعد به، قائلاً: «بسبب غياب الاتفاق داخل مجلس الوزراء، من الممكن أن تنفذ خطة الضم على مراحل لا دفعة واحدة».
هل الأمور كما عرضها نتنياهو؟ وفقاً للتسريبات في الإعلام العبري (صحيفة «هآرتس»)، شهدت الأسابيع الماضية مساعي حثيثة من السفير فريدمان، المؤيد بحماسة للضم، للتوسط بقوة بين نتنياهو وغانتس ودفعهما إلى الاتفاق على مضمون الخطة. وقد جمع لهذه الغاية نتنياهو وغانتس وأشكنازي، علماً بأنه في الخلفية يشارك أيضاً في الجلسات (من بعد) كوشنر ومستشاره آفي بيركويتز، والسفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة، رون ديرمر. تقول الصحيفة: «وفقاً لمصادر مطلعة على اللقاءات، لا يمكن وصف أي لقاء حتى الآن بأنه جدي ومثمر». في المقابل، لم تنفِ أوساط في «أزرق أبيض» ما ورد على لسان نتنياهو، بل أكدته، قائلة إنها «لا تستبعد فرض السيادة بصورة محدودة أكثر مما تسمح به خطة ترامب». فمن وجهة نظرهم، «يجب ألا تكون الخطة أحادية الجانب، بل بالتنسيق قدر الإمكان مع المجتمع الدولي ودول المنطقة، خاصة الأردن ودول الخليج العربية». هذه الشروط تسمح بضم جزئي ومحدود، والمقصود به ضم شكلي بانتظار «توافق دولي وإقليمي»، وهي شروط بطبيعتها غير قابلة للجسر بين الجانبين: «الليكود» و«أزرق أبيض». ربما هذا هو المقصود من طرحها: إفشال الخطة كما يريدها نتنياهو، ما يحول دون توجهه بقوة إلى انتخابات رابعة تضمن له على خلفية الضم نجاحاً كاسحاً وإمكانية مرتفعة لتأليف حكومة يمينية صرفة هي مطلبه الدائم في الانتخابات الثلاث الماضية.
في المحصلة، لم يعد السؤال يتعلق بخطة الضم بمعنى موعد تنفيذها وهل سيكون دفعة واحدة أو على مراحل، بل بمضمون الضم وحدوده ومدى سعته أو تجويفه. أما التشويش على الخطة كما يجري الآن وإمكان فرملة اندفاعها، فهما أمران مرتبطان بتجاذبات الأطراف الإسرائيليين ومصالحهم ضمن اللعبة الداخلية التي يتداخل فيها العامل الشخصي مع العام، في حين أن الغلبة في التجاذب الإسرائيلي نفسه مرتبطة بالقرار الأميركي الذي تحكمه أيضاً العوامل الداخلية. ثم تبقى المفارقة أن دور السلطة وعرب «الاعتدال» غير ذي صلة بتبلور القرارات في الساحتين، ما عدا «عتب الاعتدال» أولاً، و«البكاء البنّاء» لرام الله ثانياً.



حلحلة في خلافات «الليكود» و«أزرق أبيض»؟


أوردت تقارير إعلامية إسرائيلية أن الخلاف بين شركاء الائتلاف الحكومي الحالي، «الليكود» و«أزرق أبيض»، تمّت حلحلة جزء كبير منه بعدما اتفق على أن يتقدم الأخير بمشروع قانون عاجل إلى الكنيست، مقابل إتاحة تعديل رئيسي في اتفاق حكومة الوحدة. وفق الاتفاق، سيتعزز «القانون النرويجي» الذي يسمح للوزراء بالتخلي عن مناصبهم كأعضاء في الكنيست من أجل تمكين أعضاء آخرين من حزبهم شغلَ مقاعدهم. وهذا مهم لحزب بيني غانتس لأنه من أعضائه الـ15 ثلاثة فقط لا يشغلون مناصب وزراء أو نواب وزراء. في المقابل، يريد بنيامين نتنياهو التغيير بأثر رجعي لاتفاق الوحدة، حتى يتحول إلى انتخابات جديدة في حال تدخلت «المحكمة العليا» في الصفقة بينه وبين غانتس، بدلاً من التناوب وحصول الأخير على المنصب، لأنه يخشى أن تمنعه المحكمة من شغل منصب رئيس الوزراء البديل بعد تشرين الثاني/نوفمبر 2021، بسبب محاكمته الجنائية. أمر قال «الليكود» إن غانتس وافق عليه، فيما قال «أزرق أبيض» إنه وافق على دراسة الطرح، وهو ما سيتضح في الأيام المقبلة، خاصة أن نتنياهو أضاف طلباً آخر هو أن تعمل الحكومة لولاية كاملة من أربع سنوات بدلاً من ثلاث.
(الأخبار)