قبل عام من الیوم، أسقطت الدفاعات الجوية الإيرانية طائرة الاستطلاع الأميركية «Global Hawk» فوق مياه الخليج، بعد أن اخترقت المجال الجوي لإيران. بعدها بأيّام نشرت قوات الحرس الثوري حطام الطائرة المنتشل من المياه، وذكرت أنها تغاضت عن أن إسقاط طائرة تجسس مأهولة كان على متنها 35 عسكرياً أميركياً، ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، حينها، على شكر إيران من دون إغفال إطلاق الوعيد بالرد على ما وصفته واشنطن بالاعتداء الإيراني. وضعت الخطة الأميركية لضرب مواقع في الداخل الإيراني، وأرسلت الرسائل إلى طهران لتجهّز نفسها لتلقف الضربة الأميركية من دون الرد عليها، إلا أن الوسطاء تلقوا جواباً واضحاً بأن أي طلقة على الأراضي الإيرانية ستواجه برد قاس من دون أي اعتبارات لجنسية القوات المهاجمة أو الأراضي التي ستستخدم كقاعدة للنيران.ابتلعت واشنطن الضربة. وما زاد من خيبتها أن الطائرة أُسقطت بمنظومة محلية الصنع تحمل اسم «سوم خرداد»، التي كشفت طهران أمس عن مشاهد إضافية لآليات تصنيعها وتطويرها محلياً. إلا أن الأهم هو ما تم الإعلان عنه في هذه المناسبة، وهو تركيب هذه المنظومة على القطع البحرية التابعة للحرس الثوري، ما يعني انتقال الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية إلى معادلات جديدة ستحتم على سلاح الجو الأميركي، أو أي قوة جوية مهاجمة، أن تتحسّب لخط دفاع متقدّم جداً. سابقاً، كانت جزيرة أبو موسى المتنازع عليها مع الإمارات في الخليج هي القاعدة المتقدّمة للدفاع الجوي الإيراني، ومع وجود منصّات دفاع جوي عائمة أصبح للحرس الثوري القدرة على المناورة الدفاعية وإشغال العدو في نقاط متقدّمة لكشف واستهداف أي تسللات جوية محتملة من ناحية المحيط الهندي جنوباً ومنطقة الخليج جنوب غرب البلاد.
الحديث عن القوة البحرية كقوة استراتيجية متقدمة، كما وصفها المرشد السيد علي خامنئي، دفع بـ«الحرس» والجيش لتنفيذ قرارات المرشد بالوصول إلى أعالي البحار. وهذا ما بدأته إيران عبر إرسال مدمرات حربية عبرت قناة السويس وتحرّكت بمحاذاة الحدود البحرية لفلسطين المحتلة، متجاهلة كل التحذيرات التي أطلقها الجيش الإسرائيلي، لتصل إلى طرطوس ومن ثم تعود أدراجها إلى الموانئ الإيرانية بسلام. احتجاز ناقلة النفط، وما تبعه من حرب ناقلات، خرجت إيران منها بانتصار عبر إيصال الشحنة النفطية إلى سوريا ومن ثم الانتقال إلى أعالي البحار والتوجّه إلى فنزويلا.
أعلن في المناسبة عن تركيب المنظومة على القطع البحرية التابعة للحرس


مهّدت إيران تجارياً لتحدّي التواجد الأميركي المنتشر في المياه الدولية. وبالتالي فإن الخطة الإيرانية التي ستنفذ في وقت غير بعيد هي إرسال مدمرات حربية وفرقاطات مقاتلة إلى سواحل الأطلسي لتجول على الخط صفر من الحدود الأميركية. هذه الخطوة ربما لن تشكل تهديداً عسكرياً للأسطول البحري الأميركي، إلا أنها ستشكل طعنة لهيبة الولايات المتحدة العسكرية وتسجّل إنجازاً إيرانياً وتحدّياً لإرادة الهمينة الأميركية.
تتجه طهران لكسر الاحتكار الأميركي لقرارات المنطقة والإقليم. فتراجع واشنطن المستمر أمام طهران على المستوى الاستراتيجي البعيد المدى يقوّي من عود إيران ويدفعها لتعزيز موقعها كخصم قوّي في وجه الولايات المتحدة. النظر إلى الصراع على المدى القصير قد يظهر خسائر إيرانية على المستوى الاقتصادي والمادي أمام تقدّم أميركي بفرض مزيد من الحصار. لكن الخطوات الإيرانية الخفيّة الصامتة خلف الكواليس، ضد سياسات واشنطن، تُقرأ بمنظور مختلف في دوائر قرار البيت الأبيض، وتحفر خسائر كبيرة في وعي هذه الإدارة التي لم تستطع حتى اليوم الرد على الصفعات الإيرانية المتلاحقة. قد يكون الخرق الوحيد هو اغتيال الجنرال قاسم سليماني، الذي سجل انتصاراً أميركياً لثلاثة أيام، قبل دوي أصوات الصواريخ في قاعدة «عين الأسد». كان بإمكان إيران إحراق عشرات القواعد الأميركية العائمة والثابتة في المنطقة، إلا أن سياسة الموت البطيء توجع الأميركي أكثر من الدخول في مواجهة ستكون اليد الطولى فيها للأميركيين عسكرياً وإعلامياً ومالياً.
النفس الطويل في المفاوضات ينعكس أيضاً على المعركة. تراجع في الهيبة الأميركية وتعاظم في القوة الإيرانية وضعف إسرائيلي أمام محور يتوثّب للانقضاض عليها في أية لحظة. تفضّل إيران المعارك التي تشكل استنزافاً للعدو، والتي قد تنهك قواه وتهزمه قبل خوضه المعركة الكبرى.