حتى وقتٍ قريب، كانت برلين ترفض تدخلات واشنطن في مشروع «السيل الشمالي 2» لمدّ خطّ أنابيب غاز روسي إلى ألمانيا. منتصف تموز/ يوليو الفائت، هدّد وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، بفرض عقوبات إضافية على شركاء المشروع، مستنداً إلى قانون صادق عليه الرئيس دونالد ترامب في نهاية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ويهدف إلى معاقبة الشركات المرتبطة ببناء الخطّ، بحجّة أن الأخير سيعزّز نفوذ موسكو، إذ سيتيح مضاعفة حجم الشحنات المباشرة من الغاز الطبيعي الروسي في اتجاه دول أوروبا الغربية، عبر بحر البلطيق. انطلاقاً من ذلك، أعلن بومبيو أن المشروع الذي بات إنجاره وشيكاً صار تحت نطاق قانون اعتمده الكونغرس، بالإجماع تقريباً، في عام 2017 بعنوان «التصدّي لخصوم الولايات المتحدة عبر العقوبات». تصريحات دفعت وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، آنذاك، إلى التأكيد أن سياسة الطاقة الأوروبية تتشكَّل في أوروبا، لا في الولايات المتحدة.بعد أقلّ من شهرين، ستتغيّر النبرة الألمانية إزاء المشروع، وذلك في وقت سلكت فيه قضية تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني، بغاز الأعصاب «نوفيتشوك» (وفق رواية برلين)، طريقها في اتجاه تعميق الخلافات على المستوى الداخلي في ألمانيا، وسط دعوات أطلسية - أوروبية إلى تدويل القضية لإتاحة المجال أمام معاقبة الروس، فضلاً عن تحذيرات واشنطن وعقوباتها لعرقلة استكمال بناء خطّ أنابيب الغاز، ودفع الأوروبيين إلى الاستقلال عن موسكو في مجال الطاقة. لكن ما لم تحرزه الضغوط الأميركية، تكفّلت به أخرى داخلية وأوروبية. جاء الموقف الأميركي فاتراً، إذ اكتفى ترامب، الذي يقال إنه سحب 11 ألفاً من جنود بلاده من ألمانيا، بسبب خلافاته الشخصيّة مع ميركل، بالإشارة إلى أنه «لم يرَ» دليلاً على تورّط موسكو في تسميم نافالني. وعلى رغم مساعي المستشارة الألمانية لتلافي عرقلة المشروع، يبدو أنها وجدت نفسها مضطرةً إلى إعادة النظر في دعمه، ولا سيّما أن هناك أصواتاً بدأت تعلو داخل الاتحاد الأوروبي. فبولندا ودول الكتلة الشرقية السابقة الأخرى ينتابها القلق من أن يصبح التكتّل أكثر اعتماداً على روسيا، في حين تخشى أوكرانيا، وهي ليست عضواً في الاتحاد، أن يخرجها «السيل الشمالي 2» من قطاع إمدادات الغاز.
حتى الآن، حرصت ميركل على التمييز بين العلاقة مع الكرملن و»السيل الشمالي 2»، إذ إن المصالح الاقتصادية لخط الأنابيب وتلك المرتبطة بالطاقة مهمّة جداً بالنسبة إلى بلادها. وللمرّة الأولى، بعد تصريحاتها منتصف الأسبوع الماضي حين أظهرت رغبة في الفصل بين المسارين، أطلّ الناطق باسمها، يوم أمس، ليعلن أن المستشارة لا تستبعد أن تكون هناك تداعيات على خطّ الأنابيب إذا فشلت روسيا في إجراء تحقيق شامل في قضية نافالني. ولدى سؤاله عمّا إذا كانت ستسعى إلى حماية المشروع، في ما لو لجأت برلين إلى فرض عقوبات على موسكو، قال الناطق، شتيفن سيبرت، إن «المستشارة تعتقد أنه سيكون من الخطأ استبعاد أيّ أمر منذ البداية». تساوق ذلك مع موقف وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، الذي أمل أن «لا يجبرنا الروس على تغيير موقفنا إزاء السيل الشمالي»، مشدداً، مع ذلك، على ضرورة النظر في عواقب أيّ إلغاء محتمل للمشروع، وعلى وجوب عدم تركيز النقاش في شأن العقوبات على نقطة واحدة. على هذه الخلفية، نبّه ماس إلى «الضرر الكبير» الذي ستُحدثة خطوة وقف المشروع بالشركات الأوروبية، موضحاً أن «المُطالِب بذلك عليه أن يدرك أن هذه الخطوة ستصحبها نتائج. هناك أكثر من 100 شركة من 12 دولة أوروبية تعمل في مشروع السيل الشمالي 2، نصفها من ألمانيا».
وسط اشتداد المواجهة الألمانية - الروسية، وجّهت برلين إنذاراً إلى موسكو بفرض عقوبات إذا لم تقدّم الأخيرة «في الأيام المقبلة» توضيحات بشأن قضية تسميم نافالني. بحسب ما صرّح ماس إلى صحيفة «بيلد»، فإن «تحديد مهل أمرٌ لا يساعد أحداً، لكن إذا لم يسهم الجانب الروسي في الأيام القليلة المقبلة في توضيح ما حدث، فسنضطرّ إلى مناقشة ردّ مع شركائنا»، مضيفاً أنه إذا ما تقرَّر فرض عقوبات، فلا بد من أن تكون «محدّدة» الأهداف. كذلك، اعتبر في حديث إلى القناة التلفزيونية الألمانية العامة «ايه آر دي»، أن «أيّ استبعاد مسبق» لتبعات محتملة للقضية على مشروع خط الغاز «سيكون أمراً خاطئاً». من جهتها، لفتت وزيرة الدفاع الألمانية، أنيغريت كرامب كارينباور، إلى أن مسألة العقوبات على خط الأنابيب تعتمد على تعاون موسكو في توضيح ما حدث بالضبط لنافالني. وأضافت: «قلت دائماً إنني لست مغرمة بمشروع السيل الشمالي 2... بالنسبة إليّ، كان من الواضح دائماً أنه يجب أخذ المصالح الأمنية لدول أوروبا الشرقية وأوكرانيا في الاعتبار».
على المستوى الداخلي أيضاً، أصبح المشروع موضوعاً مثيراً للجدل بين المرشحين لخلافة المستشارة من معسكرها المحافظ، قبل الانتخابات التشريعية في نهاية عام 2021. ودعا اثنان منهم، هما فريدريش ميرتس ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني، نوربرت روتغن، إلى وقف هذا المشروع، تحت طائلة «تشجيع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين» على «مواصلة سياسته»، على حدّ قول الأخير، فيما حثّ أرمين لاشيت، الذي يُعدّ بين الأوفر حظاً لخلافة ميركل، إلى عدم التصرّف بطريقة «ردّ الفعل».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا