يمثّل الدور المتعاظم للمرتزقة، في إطار ما يسمّى بـ«الحروب الهجينة» الدائرة في أنحاءٍ مختلفة من العالم منذ بداية الألفية الثانية، إحدى السمات البارزة لهذا النمط الجديد من الحروب. تجنيد المرتزقة قديم قدم الإمبراطوريات التي ضمّت جيوشها، خاصة في مراحل توسّعها، عدداً كبيراً منهم. لم تشذّ الإمبراطوريات الديموقراطية الغربية «العريقة»، خاصة البريطانية والفرنسية، عن هذه القاعدة عندما استقدمت، مقابل بعض الفتات، أبناء مستعمراتها للقتال والموت دفاعاً عن سيطرتها ومصالحها، بعيداً عن ديارهم. زيارة «المربعات الإسلامية» في مقابر الجنود الذين قضوا في الحربين العالميتين الأولى والثانية مثلاً في بلدان الغرب، تكفي لإدراك هذه الحقيقة. مع بداية عصر الاستقلالات في دول الجنوب، انحسرت هذه الظاهرة نسبياً وبدا أن الارتزاق لصالح جيوش الغرب بات محصوراً إلى حد ما بالعسكريين السابقين الذين يعملون لحساب مجموعات رديفة لها سمّيت لباقةً «شركات أمنية خاصة». لكن مع غزو أميركا لأفغانستان والعراق، تضخّمت ظاهرة الارتزاق مجدداً، ارتباطاً بتحولات اجتماعية وسياسية بنيوية متزامنة في بلدان الغرب وبعض بلدان الجنوب.تُظهر المواجهات المحتدمة حالياً في ليبيا وسوريا واليمن، وبدرجة أقل حالياً في العراق وفنزويلا، للمثال لا الحصر، ومدى أهمية مساهمة القوى «الرديفة» فيها هذا الأمر بوضوح. الجديد أيضاً هو أن تجنيد المقاتلين أصبح يترافق مع سعي حثيث لاستقطاب «النخب» و«أبناء العائلات» في بلدان الجنوب للعمل في إطار منظمات ومؤسسات مدنية وإعلامية، قسم منها «غير حكومي»، تتحرك وفقاً لأجندة الممولين، وهم في غالب الأحيان نفس رعاة الارتزاق المسلّح. وعلى الرغم من أن القوى الغربية هي التي أحيت هذه الظاهرة، فإن قوى إقليمية «طموحة» أضحت تحذو حذوها في بناء مجموعات وشبكات ارتزاق خدمة لمشاريعها، ولا ريب أن الخاسر الأكبر من ذلك هو تلك الشعوب التي نُكبت بفعل سياسات العدوان والهيمنة والنهب، وبفساد حكامها، إلى حدّ أن قطاعات منها أصبحت ترى في الارتزاق سبيلاً للعيش.
تضافُر عاملَين رئيسيين يفسّر اتساع ظاهرة اللجوء إلى المرتزقة في العقدين الماضيين، أوّلاً من قبل الدول والمجتمعات المترفة: عدم استعداد الأغلبيات الوازنة في هذه المجتمعات لتحمّل أكلاف الحرب وتضحياتها من جهة، ومسار اضمحلال الدول وتفكّك المجتمعات في عدد من بلدان الجنوب من جهة أخرى. المؤرخ العسكري الأميركي إدوارد لوتواك كان بين أوّل من استنتجوا، في مقال لافت بعنوان «أين القوى العظمى؟ في المنزل مع الأطفال» في دورية «فورين أفيرز» عدد آب/ أيلول 1994، أن الجاهزية للقتال والموت تراجعت إلى حدودها الدنيا في مجتمعات الغرب المرفهة، خاصة في ظلّ غياب أيّ تهديد وجودي لها، وأن ضرورات الحفاظ على هيمنته تفرض الاستعانة مجدداً، ولو جزئياً، بالمرتزقة. علينا ألّا ننسى أيضاً أن السياق الذي تبلورت فيه هذه الرؤية اتّسم بسيادة قناعة لدى القيادات العسكرية الغربية بإمكانية الانتصار في الحروب من دون خوض معارك بفعل «الثورة في الشؤون العسكرية» وما أمّنته من تفوّق تكنولوجي، كما اتضح خلال «حرب تحرير الكويت» عام 1991، وحرب كوسوفو في 1999. ربح الحروب من دون خوضها بالاستناد إلى التكنولوجيات الذكية، وبعض الفقراء المستعدّين للموت، بدا خياراً واقعياً في تلك الحقبة.
صحيح أن الولايات المتحدة شهدت بعد عمليات الـ 11 من أيلول/ سبتمبر 2001 استنفاراً للوطنية الأميركية دفع الكثيرين للانضمام إلى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية لـ«محاربة الإرهاب» في أفغانستان والعراق، ومعاقبة شعوب بأكملها على ما قام به تنظيم مجهري معزول حتى ذلك التاريخ، غير أن الأكلاف البشرية والمادية الباهظة لهاتين الحربين سرعان ما أدت إلى انقلاب مزاج الرأي العام ضد بقاء القوات الأميركية في البلدين. الواضح هو أن تخفيض عديد القوات الأميركية في البلدين، المرشح للاستمرار في الفترة المقبلة، سيترافق مع إحلال مجموعات من المرتزقة، شركات أمنية أو عسكرية أميركية خاصة، في مكانه. يتلازم ذلك مع نجاح واشنطن في تحويل القوات الكردية في العراق والتي تتمتع معها بعلاقات تاريخية، وكذلك في سوريا، حيث انتقلت من موقع الشريك في الحرب على «داعش» إلى وكيلها المحليّ، إلى قوى رديفة ملتزمة بأولويات استراتيجيتها الإقليمية الموجّهة أساساً ضد إيران ومحور المقاومة.
خلال حرب فييتنام، عمدت الولايات المتحدة إلى الحدّ من خسائر قواتها في مواجهة المقاومة الشعبية إلى انشاء ميليشيات رديفة فييتنامية على قاعدة مبدأ «دعوا الآسيويين يقتلون الآسيويين». هي تتبع السياسة إيّاها في العراق وسوريا راهناً. ما ينبغي لحظه إضافة إلى ذلك أن نوعاً من تقسيم العمل يسود في المهام الموكلة للمرتزقة حسب أصولهم: الغربيون يُكلّفون بالمهام الأقل خطورة أو التي تتطلّب خبرات متقدمة في مجال صيانة الطائرات أو بعض منظومات السلاح مثلاً، أمّا «الملونون» فيرسَلون إلى ساحات القتال.
دول الغرب، أميركا وفرنسا وبريطانيا، قدمت نموذجاً أصبح العديد من الدول الأخرى يتبعه. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن أوّل 10 شركات عسكرية خاصة في العالم، حسب تقرير «معهد ستوكهولم لدراسات السلم الدولي»، هي شركات غربية، أميركية وبريطانية وكندية. روسيا أصبح لديها شركاتها العسكرية الخاصة، وكذلك تركيا والإمارات والسعودية وغيرها. وتحوّلت ليبيا، وكذلك سوريا واليمن، إلى ساحات حرب تلعب فيها هذه الشركات دوراً محورياً. في ليبيا مثلاً، أرسلت تركيا عدة آلاف من السوريين للقتال مع حكومة «الوفاق الوطني»، وفي المقابل قامت الإمارات بتغطية أكلاف مشاركة قوات سودانية وتشادية في القتال إلى جانب «الجيش الوطني» الموالي لخليفة حفتر. تقرير نُشر أخيراً في مجلة «دير شبيغل» الألمانية، بعنوان «الاعتماد مجدداً على المرتزقة»، يشير إلى أن حرب ليبيا تمثّل سابقة لأننا «في بعض معاركها، لن نجد ليبيين يتقاتلون، بل سوريين وسودانيين وتشاديين. اللجوء إلى المرتزقة بات من المرتكزات الرئيسية للاستراتيجيات العسكرية المتّبعة من قِبل عدة حكومات». أكرم خرييف في «اللوموند ديبلوماتيك» اعتبر، من جهته، أن هذه الحرب يتخللها «تدفق تاريخيّ للمرتزقة». توفر الدول التي دخلت في طور متقدّم من الاضمحلال، من منظور الأطراف المهيمنة أو الساعية للهيمنة، خزاناً بشرياً احتياطياً لوسطائها الذين يقومون بعمليات التجنيد. بالنسبة إلى قطاعات متعاظمة من سكانها، عندما يغيب الحد الأدنى الضروري للبقاء، لا نتحدث طبعاً عن أبسط مقومات الحياة الكريمة بل عن البقاء، وينعدم أيّ عرض سياسي بتغيير يقود نحو غد أفضل، يقبل بعضهم أن تصبح الحرب مصدر رزقه المتاح وأن يكون وقوداً لنار الصراعات بين الدول المترفة وتلك الطموحة.
من غير الأكيد أن يسمح الاعتماد على المرتزقة لجميع هذه الأطراف بتحقيق أهدافها النهائية في المواجهات الجارية، لكن الثابت إلى الآن أن الأكلاف السياسية والاقتصادية المنخفضة لمثل هذا الاعتماد يؤدّي إلى تفاقمه باطراد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا