على مدى الأسابيع القليلة الماضية، عُقدت جلسات محاكمة جوليان أسانج في محكمة «أولد بيلي» الجنائية في لندن، لتنتهي إلى تحديد تاريخ الرابع من كانون الثاني/ يناير المقبل موعداً لبتّ قرار تسليم مؤسّس «ويكيليكس» إلى الولايات المتحدة، حيث يواجه، بموجب «قانون التجسّس» الأميركي، 18 تهمة، على خلفية نشر موقع المنظّمة مئات آلاف الوثائق السرّية التي فضحت أنشطة «الدبلوماسية» الأميركية وتلك العسكرية. مرّة جديدة، بَيّنت المحاكمة أن الجريمة لا تزال متواصلة مِن جانب الحكومَتين البريطانية والأميركية، وأجهزتهما الاستخبارية، بعدما أميط اللثام عن أدلّة تتكشّف تباعاً، لتروي جانباً من الانتهاكات المستمرّة في حقّ أسانج.
بطريقة فريدة، طبّقت الولايات المتحدة القانون بما يتناسب مع قضيّتها ضدّ جوليان أسانج. بموجب معاهدة تسليم المطلوبين الأميركية - البريطانية لعام 2003، تَقدَّم الادّعاء الأميركي بطلبٍ لإجبار المملكة المتحدة على تسليم مؤسّس "ويكيليكس"، على رغم أن المادة الرابعة من المعاهدة المذكورة تنصّ على "عدم جواز التسليم في حال كانت الجريمة التي يُطلب من أجلها التسليم، جريمةً سياسية". خِفّة اليد الأميركية عكست التناقض في ادّعاءات واشنطن لتطبيق "قانون التجسّس" ضدّ أسانج، الأوسترالي الجنسية، فيما حرمته من الحماية بموجب قانون آخر، هو التعديل الأول للدستور الذي يُفترض أن يضمن "الحقّ في حريّة التعبير".
منذ شَرَع مركز مكافحة التجسّس التابع للجيش الأميركي، عام 2008، في "إتلاف أو تدمير مركز الثقل" (في إشارة إلى "ويكيليكس")، جُنّدت كلّ الأجهزة الأميركية للغاية نفسها؛ بانضمام "البنتاغون"، ووكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، و"وكالة الأمن القومي"، ووزارة الخارجية، إلى قيادة المركز، تشكّلت فِرَق عمل خاصة لإطاحة "ويكيليكس" ومؤسّسه. تعود أول عملية ضدّ أسانج إلى أيلول/ سبتمبر 2010، حينما اختفت متعلّقاته، ومن بينها ثلاثة أجهزة كومبيوتر محمولة ومحرّكات أقراص صلبة، من الطائرة التي كانت تقلّه من السويد إلى ألمانيا، لتتبعها أخرى في عام 2011. وقتها، تَوجّه عملاء من "مكتب التحقيقات الفدرالي"، "إف بي آي"، إلى أيسلندا لتجنيد مخبر يدعى سيغودور ثوردارسون، للتجسّس على "ويكيليكس". تَكثّفت المراقبة أينما حلّ أسانج، وصولاً إلى لجوئه في سفارة الإكوادور لدى بريطانيا (حزيران/ يونيو 2012) لتجنّب تسليمه إلى السويد، حيث كان سيواجه تهم اعتداءات جنسية ضدّ امرأتين تَبيّن أنها ملفقة (أسقطتها استوكهولم رسمياً في وقت سابق من العام الماضي). في هذا الوقت، كانت وكالتا الأمن القومي الأميركية والبريطانية تتتبّعان الأشخاص الذين يسجّلون دخولهم إلى موقع "ويكيليكس"، حتى إن المؤسّسات المالية الأميركية سعت إلى شلّ الموقع مالياً من طريق حرمان المانحين استخدام بطاقات الائتمان لدعم المنظّمة. ذروة الإجراءات المتطرّفة ضدّ أسانج كانت مع وصول لينين مورينو، خلفاً لرافاييل كوريا، إلى سدّة الرئاسة في الإكوادور عام 2017.
أُطلقت عملية معقّدة لمراقبة أسانج ستتسارع وتيرتها مع تولّي ترامب منصبه بداية عام 2017


ضاق الرجل ذرعاً بـ"الضيف الثقيل"، فوظّف شركة أمن إسبانية خاصة هي "يو سي غلوبال" للتجسّس عليه، والتخلّص منه إذا أمكن (نوقشت خطط لتسميم أسانج أو اختطافه من السفارة بين مسؤولين في الاستخبارات الأميركية وشركة الأمن). في السفارة حيث مكث مدّة سبع سنوات قبل تسليمه في نيسان/ أبريل 2019، واحتجازه في سجن "بلمارش" للحالات الأمنية الخطيرة، جرى تركيب كاميرات مجهّزة بميكروفونات، وبثٍّ مباشر "حتى يتمكّن أصدقاؤنا في الولايات المتحدة" من الوصول إلى السفارة متى أرادوا، بحسب مؤسّس ومدير "يو سي غلوبال"، ديفيد موراليس. هذا جزء ممّا رواه موظّفان عملا سابقاً لدى الشركة، في شهادتيهما أمام المحكمة الأسبوع الماضي. شرح أحدهما أن حضور موراليس معرضاً تجارياً لقطاع الأمن في لاس فيغاس، حيث حصل على عقد مع شركة "لاس فيغاس ساندز"، التي يملكها الملياردير الأميركي شيلدون أديلسون، المؤيّد لدونالد ترامب (كان مرشحاً رئاسيّاً في ذلك الوقت)، غيّر كل شيء. عاد موراليس إلى مكاتب الشركة في خيريز، جنوب إسبانيا، ليعلن "(أننا) سنلعب في الدوري الكبير"، مع تحوّل "يو سي غلوبال" إلى "الجانب المظلم"، وفق الشاهد الذي أكد أنه تمّ إطلاق عملية معقّدة لمراقبة أسانج ستتسارع وتيرتها مع تولّي ترامب منصبه بداية عام 2017، حين ستتكرّر رحلات موراليس إلى الولايات المتحدة.
يؤكّد السياق استحالة حصول أسانج على محاكمة عادلة؛ إذ تَبيّن أيضاً، اعتباراً من عام 2017، أن لدى زوج القاضية الأولى المكلّفة بقضيّة أسانج، إيما أربوثنوت، وابنها، صلات بأشخاص وردت أسماؤهم في سياق قضايا جرمية نشرها "ويكيليكس". عندما أصبحت علاقات عائلة أربوثنوت بأجهزة الاستخبارات والصناعات الدفاعية البريطانية معروفة، انسحبت من القضية، لكنها لا تزال قاضية التحقيق الرئيسة في وستمنستر، أي إنها تُشرف على القضاة الأقلّ درجة. أحد هؤلاء، فانيسا باريتسر، التي ترأّست محاكمة أسانج، وخَلصت بعد قرابة أربعة أسابيع من جلسات الاستماع في محكمة "أولد بيلي" الجنائية، إلى إرجاء بتّ قرار التسليم إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في الثالث من الشهر المقبل، بعدما اعتبر محامي أسانج، إدوارد فيتزجيرالد، أن تسليم موكّله له دوافع سياسية في عهد ترامب.
يُعدُّ تدهور حالة أسانج الصحية والنفسية كافياً لمنع تسليمه إلى واشنطن؛ العديد من الأطباء النفسيين، وآخرهم الأستاذ الفخري في الطبّ النفسي في كينغز كوليدج، مايكل كوبلمان، أكّدوا أن ميولاً انتحارية ظهرت عليه. في شهادته أمام المحكمة، تحدّث كوبلمان عن "اكتئاب حادّ" و"أعراض ذهان"، بينها هلوسات سمعية ظهرت على أسانج في زنزانته الخاضعة لحراسة مشدّدة في سجن "بلمارش". في خلفية ذلك، يكمن تاريخ عائلي طويل مع الانتحار، ما يجعل الاحتمال راجحاً لشخصٍ "تعرّض، عمداً، على مدى عدّة سنوات، لأشكال مختلفة وشديدة من العقوبة القاسية واللاإنسانية والمهينة، والتي لا يمكن وصف آثارها المتراكمة إلّا بأنها تعذيب نفسي"، على حدّ وصف مقرّر الأمم المتحدة الخاص المعني بالتعذيب، نيلز ميلزر.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا