في وقتٍ قياسي، أَحبطت بوليفيا الانقلاب الذي نفّذته الولايات المتحدة، العام الماضي، بالتواطؤ مع قوى اليمين المعارض والجيش البوليفي، بفوز مرشَّح حزب "الحركة نحو الاشتراكية"، لويس آرسي، في الانتخابات. فوزٌ من شأنه أن يبدّل واقعاً رسمته واشنطن للبوليفيين، في أعقاب انقلابها على إيفو موراليس، وأن يعيد ترتيب السياستَين الداخلية والخارجية للبلاد، بعدما حُيّدتا عن مسارَيهما في عهد حكومة جانين آنيز.على مدى 14 عاماً، شَكّل إسقاط النظام في بوليفيا هدفاً للولايات المتحدة، لكونه وقف في وجه مشاريعها في البلاد. قام موراليس، منذ انتخابه في عام 2006، بمجموعة خطوات إصلاحية، وَضعت الطبقات المهمّشة في قلب سياسته الاقتصادية - الاجتماعية، وأدّت إلى انخفاض معدّلات الفقر في هذا البلد من 59% إلى 39%. كذلك، انتهج الرئيس السابق سياسة تأميم موارد البلاد الطبيعية، ولا سيما الغاز والليثيوم، وهو ما سمح لاقتصاد بوليفيا بأن ينمو بشكلٍ منتظم، بمعدّل بلغ 6% سنوياً.
سياسات موراليس في الداخل البوليفي ليست وحدها ما دفع واشنطن إلى محاربته، إذ تُضاف إليها مواقف لاباز الخارجية والمتعارِضة مع السياسات الأميركية، مثل تبنّيها دعم القضايا من كوبا إلى فنزويلا، وصولاً إلى نصرة القضية الفلسطينية، وإدانتها الاحتلال. حتى إن بوليفيا ذهبت أبعد من ذلك في عهد موراليس، بعدما أقدمت على تصنيف إسرائيل "دولةً إرهابية"، في أعقاب عدوانها على غزّة صيف عام 2014. وقبلها، في عام 2009، قطعت لاباز العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، احتجاجاً على العدوان الذي شنّته الأخيرة على القطاع. مذّاك، لم تمرّ مناسبة دولية إلّا ودانت فيها بوليفيا الأفعال الإسرائيلية. ولعلّ أبرز ما انتشر من تلك المواقف، كان مشهد المندوب البوليفي في مجلس الأمن، ساتشا سوليز، مرتدياً "الكوفية"، وهو يتلو مجموعة أسماء شهداء فلسطينيين ارتقوا خلال مواجهات مع الاحتلال في غزة، ومُقدِّماً اعتذاره واعتذار دولته إلى الشعب الفلسطيني: "أطلب المغفرة من الشعب الفلسطيني بعد 70 عاماً من عجز مجلس الأمن عن نصرتكم". جرى ذلك في أيار/ مايو عام 2018، أي قبل سنة ونصف سنة من وقوع الانقلاب الذي أتى بحكومة سرعان ما طبّعت علاقاتها مع أميركا وإسرائيل، في مقابل تخفيض مستوى العلاقات مع كلٍّ من كوبا وفنزويلا وإيران، والتي من المنتظر إعادتها إلى سابق عهدها في ظلّ رئاسة آرسي.
سياسات موراليس في الداخل البوليفي ليست وحدها ما دفع واشنطن إلى محاربته


لم يكن انقلاب عام 2019 في بوليفيا وليد "لحظة ديموقراطية أو ردّ فعلٍ على تزوير انتخابي" مزعوم، كما وصفه الغرب، بل مَثّل جزءاً من خطة أميركا للسيطرة على أميركا اللاتينية، مع فارق أنه سمح لإسرائيل بتحقيق بعض المكاسب. فبعد إعلان حكومة الأمر الواقع في لاباز استئناف العلاقات مع تل أبيب، اعترف وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، إسرائيل كاتس، بأن هذا التطبيع "يسهم في علاقات إسرائيل الخارجية وموقعها الدولي"، فيما اعتبر الأكاديمي الإسرائيلي، ويلي أبراهام، في مقالٍ نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم"، في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، أنه "لا يمكن فصل الحدث في بوليفيا عن البيئة الدولية العامة التي تشهد تقارباً مع إسرائيل بعد وقت طويل من الابتعاد عنها". لقد أراد اليمين البوليفي، عبر استئناف العلاقات مع الاحتلال وطلب مساعدة إسرائيل في تدريب وحدات الشرطة على أساليب "مكافحة الإرهاب"، "إعادة السيطرة على البلاد، وتفكيك التضامن البوليفي مع القضية الفلسطينية"، وفق ما رأى محلّلون آنذاك. وهو ما كان أكّده وزير الداخلية البوليفي الموقّت، أرتورو موريلو، بقوله إن "الإسرائيليين يعرفون كيفية التعامل مع الإرهابيين"، مشيراً بذلك إلى خبرة إسرائيل في محاولات "محو الهوية الفلسطينية"، والتي تطلّع اليمين البوليفي إلى ما يماثلها عبر "إقصاء دور السكّان الأصليين، الذي كان تحقّق في عهد موراليس".
خسر اليمين البوليفي، ومِن ورائه واشنطن، رهانهما على المعركة الأيديولوجية التي خيضت في البلاد، عبر تأجيج الانقسامات في المجتمع واستفزاز غالبية الشعب. لكن قادة الانقلاب لم يتمكّنوا من تغيير وجه لاباز اليساري وتحالفاتها. فبعد سنة ممّا حدث، عاد اليسار إلى الحكم، وعبر صناديق الاقتراع. الأكيد أن تحدّيات كثيرة تنتظر آرسي وفريقه، من تأليف حكومة وحدة وطنية، إلى التعامل مع جنرالات المؤسّسة العسكرية المدعومين أميركياً، والذين لا يزالون في مواقعهم، وصولاً إلى تصحيح سياسات عهد الانقلاب، والتي كادت تُغيِّر وجه بوليفيا.