ذهبت بعض التقديرات قبل أسبوعين، أو أكثر قليلاً، إلى ترجيح احتمال شنّ حرب أميركية ضدّ إيران قبل انتهاء رئاسة دونالد ترامب، وذلك بعد التأكّد، أو شبه التأكّد، من خسارته في الانتخابات الرئاسية. ودعمت هذا الاحتمالَ استقالةُ، أو إقالة، وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر، وتعيين وزير دفاع بالوكالة مكانه، وإجراء تغييرات إدارية في «البنتاغون» على مستوى مدراء وكبار مسؤولين.وكانت هنالك تقديرات مقابلة، مال إليها كاتب هذه السطور، تُرجّح عدم شنّ حرب ما لم يتمّ توافق عليها بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وتأمين موافقة الدولة العميقة، خصوصاً قيادة الجيوش الأميركية. أما أن تُشنّ حرب بقرار رئاسي منفرد فقط، فإنه لم يحصل قطّ، ويحمل في طيّاته الإفشال أو الفشل، ولا يُقدِم عليه إلاّ مغامر انتحاري سياسياً. ثمّ كيف يجوز لرئيس أميركي أن يطلق حرباً بمبادرة منه، قبل ساعات أو أيام من تسليمه سلطاته لرئيس منتخب لم يُستشر، ولم يُوافِق. كذلك، يجب أن يُفترض، وما زال هذا الافتراض قائماً، أن لا تسمح قيادة الجيش الأميركي بشنّ تلك الحرب، لأن قسَم الجيش في الولاء هو للدستور وليس للرئيس.
على أن تطوراً جديداً حدث قبل بضعة أيام، وهو قرار إرسال طائرات من طراز "بـ52" العملاقة إلى المنطقة. وهذه الخطوة، وفقاً لتوجيهات كارل فون كلاوزفيتز (واضع علم الحرب)، تنذر بالحرب، لأنها بمثابة حشد للجيش، ولا يجوز التعامل معها إلا كذلك. ولا يُسمح بالقول إنها مجرّد تهديد، أو استعراض قوة، إلاّ بعد أن يَتبيّن ذلك بمرور زمن كافٍ. أمّا قبله، فاعتبارها هو أنها أُرسِلت للحرب. ثمّ جاءت زيارة مارك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي إلى المنطقة، لتحمل تفسيرات شتّى. ولكن التطوّر الجديد جاء بعد الإعلان عن لقاء رباعي في مدينة "نيوم"، قرب جدة، في السعودية، ضمّ بومبيو، ومحمد بن سلمان، وبنيامين نتنياهو، ويوسي كوهين (رئيس الموساد). وقد سبقه تصريح لوزير الخارجية السعودي، فيصل فرحان آل سعود، قال فيه إن السعودية "تؤيّد التطبيع الكامل مع إسرائيل (التحالف)، بشروط...". هنا، أصبح من الضروري ربط هذا اللقاء بوصول طائرات "بـ52" إلى المنطقة، أي بالحرب، لأن الطرفين المعنيَّين بالحرب ضدّ إيران يتمثَّلان في نتنياهو وابن سلمان. وذلك ليس لأن الحرب قد تمتدّ إليهما فحسب، وإنما أيضاً لأن نتنياهو هو مَن ساوم ترامب عليها ونيابة عن السعودية، لإقناعه باتخاذ هذا القرار الأخرق. طبعاً هو قرار من أجل الكيان الصهيوني، ونتنياهو المتهاوي بالخصوص. أما السعودية فعليها أن تدفع ثمنَيْن: الأول التعجيل بالتطبيع، والثاني تغطية أكلاف مالية للحرب، ولآل ترامب. ومن هنا، فهذا التوقيت للقاء الرباعي يُدخله في إطار التحضير للحرب. ولا يغيّر من الأمر شيئاً عدم حضور نتنياهو، وفقاً للنفي السعودي، فكوهين يكفي.
وما كان لرئيس أميركي غير ترامب أن يقتنع بهذه الحرب في آخر عهده في الرئاسة، وبمغامرة مخالِفة للتقاليد والأصول الأميركية في قرار المشاركة في حرب أو شنّ حرب. حقاً إنه ترامب الذي يصعب على أحد أن يتوقع خطوته الثانية، أو يفيد من تجارب التاريخ في فهمها عندما تقع، ودائماً عكس المتوقع. من هنا، يصبح ترجيح احتمال الحرب قد أخذ يرتفع إلى مستوى أعلى، على رغم تحدّيه لتقاليد اتخاذ قرار بالحرب في أميركا، واحتمال صدامه مع قيادة الجيش عند التنفيذ، ومن ثمّ احتمال إحباطه. ولهذا، فإن ترامب سيذهب إلى توجيه ضربة قوية إلى المركز النووي في ناتنز أو غيره، باعتباره ضربة واحدة استباقية وليس إعلان حرب. وهي ضربة قد يُردّ عليها بحرب شاملة كما صرّح بعض القادة، لتكون حجّة لحرب أوسع، وهي المنشودة بالنسبة إلى ترامب ونتنياهو، ولا يمكن إعلانها، أميركياً، في كلّ الظروف القائمة الآن.
ولكن المشكلة أن أيّ ضربة محدودة، حتى لو كانت بحجم تدمير ناتنز، لا قيمة لها في تغيير موازين القوى، إلاّ من الناحية المعنوية. وهي من النوع الذي يترك القرار لإيران بالنسبة إلى حجم الردّ عليه وتوقيته. فبالنسبة إلى ترامب، هل هذا يكفي (الكسب المعنوي)، أم المطلوب ضرب كلّ مراكز إنتاج الصواريخ البالستية ومواقعها، ومراكز البحوث التقنية والعلمية وغيرها وصولاً إلى البنية التحتية (الحرب الشاملة)؟ ولهذا، لا شيء يفرض على إيران، في حال ضربة جزئية محدودة، ألا يكون ردّها جزئياً محدوداً، أو شاملاً، وتدخل حرباً واسعة بسببها، إلاّ إذا جاءت حساباتها بأنها قادرة عليها، وقادرة على الانتصار فيها. لذلك، فإن المبادرة ستكون بيد إيران، وسينقلب السحر على الساحر في كلّ الحالات.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا