بعد مرور شهرين على اندلاع حرب جنوب القوقاز، تنتظر الأزمة بين باكو ويريفان استكمال تطبيق اتفاق التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، وفقاً للخريطة التي وضعتها موسكو، ووافق عليها ووقّعها كلّ من رئيس آذربيجان إلهام علييف، ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان.نجاح آذربيجان في تحرير أجزاء كبيرة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها أرمينيا، ينتظر استكمال سيطرة جيشها، سلميّاً، على ما تبقّى من أراضٍ احتلّتها يريفان في مطلع التسعينيات، ولا تدخل في نطاق منطقة ناغورنو قره باغ التي كانت تحظى بحكم ذاتي منذ عام 1923 إلى حين تفكُّك الاتحاد السوفياتي. ويعطي اتفاق وقف إطلاق النار مهلةً لانسحاب آخر جندي أرميني حتى الأوّل من كانون الأول/ ديسمبر المقبل، على أن تنتشر القوات الروسية الخاصة في المعابر والممرّات وعند خطوط التماس التي نصّ عليها الاتفاق، من بعد هذا التاريخ. وفي ظلّ اللغط الذي أثير حول وضع مدينة شوشي، فإنها، بحسب الخريطة الروسية، ستكون في عهدة الآذربيجانيين، ولن تنتشر فيها قوّات روسية. لكن المدخل الشمالي للمدينة المؤدّية إلى ستيباناكيرد، عاصمة إقليم قره باغ، وُضع تحت إشراف القوّات الروسية التي ستنتشر كذلك في القسم الشمالي الغربي من الإقليم. بهذا، أصبح إقليم قره مقسّماً، عمليّاً، بين منطقة أرمينية تشرف عليها روسيا، وأخرى آذربيجانية تتبع باكو. وفي انتظار ما سيؤول إليه الوضع النهائي للإقليم بشقّيه الروسي والآذربيجاني، والذي يبقى رهن مباحثات مستقبلية، سيكون أمام خيارات عدّة، منها أن يعود منطقة حكم ذاتي تتبع آذربيجان، على رغم رفض علييف الفكرة؛ أو أن تكون المنطقة الروسية منطقة حكم ذاتي تتبع أرمينيا عبر ممرّ لاتشين، وهو احتمال ضعيف جدّاً لن تقبل به باكو؛ أو أن تستمر حال المراوحة هذه لسنوات في انتظار متغيّرات جيوبوليتيكة تعيد رسم الأوضاع من جديد. في جميع الأحوال، فإن خريطة التفاهمات التي أُقرّت في الاتفاق الأخير ستكون المنطلق لتطويره جغرافياً وسياسياً.
وتبدو آذربيجان، ومِن خلفها تركيا، في موقع قوي بفعل الانتصارات التي حقّقتاها، وأعادت ــــ حرباً وسلماً ــــ جميع الأراضي التي كانت تحت سيطرة باكو لدى تفكّك الاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى نصف قره باغ تقريباً. وإذا كان الأرمن قد كسبوا تثبيت ممرّ لاتشين بين أرمينيا وقره باغ كممرّ رسمي ــــ وهذا أمر مهمّ ليريفان وستيباناكيرد ــــ، لكن الآذربيجانيين والأتراك حقّقوا مكسباً يفوقه أهمية، وهو الممرّ البري من طرق مزدوجة في الاتجاهين، وخط سكة حديد يصل منطقة نخجوان ذات الحكم الذاتي التابعة لآذربيجان، بالأراضي الآذربيجانية مباشرةً عبر الأراضي الأرمينية. وهذا أمر فائق الأهمية بالنسبة إلى باكو التي لم تَعُد في حاجة إلى المرور عبر الأراضي الإيرانية للوصول إلى نخجوان، كما أنه مهمّ جداً لتركيا، كونه يصل الأراضي التركية عبر نخجوان، ومن ثمّ عبر هذا الممرّ، بالأراضي الآذربيجانية مباشرة أيضاً، ومن دون الحاجة إلى المرور عبر الأراضي الإيرانية. وهذا يعني، تلقائياً، خسارة طهران إحدى الأوراق التي كانت تمتلكها في وجه باكو وأنقرة. ولا حاجة إلى التذكير بأن القوميين الأتراك المتشدّدين يعتبرون هذا الممرّ إحياء للحملة البرّية بين الأناضول والقوقاز وآسيا الوسطى وفقاً للنظرية الطورانية.
ستنتشر تركيا في منطقة القوقاز للمرّة الأولى منذ عام 1918


ولا ينفصل عن هذه الرؤية الدور الذي بدأت تركيا تقوم به في القوقاز من خلال إنشاء مركز مراقبة مع روسيا في الأراضي الآذربيجانية لمراقبة وقف إطلاق النار. ومع أن الروس يعتبرون هذا المركز شأناً داخلياً آذربيجانياً ــــ تركياً لا علاقة له باتفاق قره باغ، فإن أنقرة تعتبره منطلقاً لتثبيت موطئ قدم لها في آذربيجان. وفي هذا الإطار، وافق البرلمان التركي، بإجماع أحزابه (باستثناء الحزب الكردي)، على مذكّرة للحكومة تسمح بإرسال قوات تركية إلى آذربيجان، نزولاً عند طلب الأخيرة والاتفاقات الثنائية، وليس وفقاً لاتفاق دولي مع روسيا أو غيرها.
ومع وصول طلائع جنودها إلى آذربيجان قريباً، تكون تركيا قد انتشرت في منطقة القوقاز للمرّة الأولى منذ عام 1918، تاريخ انسحاب الأتراك من باكو، وهو ما هلّلت له وسائل إعلام حزب "العدالة والتنمية"، واعتبرته "عودة" إلى القوقاز، تماماً كما هلّلت لدخول القوات التركية إلى سوريا عام 2016، ومن بعدها إلى عفرين على أساس أنها عودة إلى حدود "الميثاق الملي". بانتشارها هذا، تُوسّع أنقرة حضور أو احتلال جيشها في منطقة جديدة من العالم، بعد كلّ من قبرص التركية والصومال وجيبوتي وقطر وسوريا والعراق وليبيا، وهذا خارج مشاركات تركيا في قوات حفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة، علماً بأن الجيش التركي موجود منذ سنوات في آذربيجان وفقاً لاتفاقات ثنائية لتدريب جيش هذا البلد وتقديم الاستشارات التقنيّة. بذلك، يمكن القول إن حرب القوقاز وفّرت ذريعةً لتركيا، لتوسيع نطاق حضورها ونفوذها في منطقة تُعدّ تاريخياً منطقة نفوذ صافية لروسيا.
في هذا الوقت، تواصل موسكو الإمساك بخيوط اللعبة بمفردها تقريباً في تلك المنطقة. فحماية مناطق التماس والممرّات والطرق هي برعاية القوّات الروسية فقط. وليس من دوريات أو نقاط مراقبة مشتركة مع الأتراك. أي أن الوجود التركي سينحصر في مناطق وجود الجيش الآذربيجاني، وهذه مسألة خاصة بأنقرة وباكو، ولا علاقة لها بوجود حالة حرب في المنطقة أو لا.
كسبت روسيا آذربيجان بالسماح لها بالتقدّم عسكرياً، وبإعادة ما تبقّى من أراض، باستثناء نصف قره باغ، سلماً، كما قدّمت لها خطّاً برّياً مع نخجوان. وهو إنجاز كبير، وخصوصاً أن أنقرة وواشنطن وتل أبيب كانت تعمل على إضعاف النفوذ الروسي واقتلاعه من باكو نهائياً. ومَن يتابع الصحف الآذربيجانية يدرك حجم شكر هؤلاء لموسكو في هذا الإطار. أي أن الحرب التي أريد، في جانب منها، إضعاف روسيا، والرهان على أنها ستقف إلى جانب أرمينيا، أعطت نتائج عكسيّة لمصلحة الروس، وكلّ ذلك بفضل دهاء فلاديمير بوتين. لكن هذا الدهاء كان يقع موقع السخط لدى الأرمن عموماً، ومَن كانوا يحملون قره باغ قضية قومية أرمينية. وعلى رغم صوابية القاعدة الذهبية القائلة إن لعبة الأمم لا تعترف بالحقّ، بل بالمصالح، فإن هناك إجماعاً على أن سياسات باشينيان كانت السبب في ما حلّ بأرمينيا وقره باغ والأرمن من كارثة. فرهان هذا الأخير على دعم الغرب، بل حتى الدياسبورا الأرمينية، كان خائباً؛ إذ إن الولايات المتحدة كانت خارج السمع، ووزير خارجيتها، مايك بومبيو، الذي سافر إلى اسطنبول ليجتمع، في لقاء غريب وغير مبرّر، مع بطريرك الأرثوذكس دون آخر سواه، لم يتكبّد عناء السفر على مرمى حجر إلى يريفان ليعلن تضامنه مع الرجل الذي جاءت به واشنطن عام 2018. أكثر من ذلك، فإن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أجاب حين سُئل عن سبب عدم مساعدته يريفان في الحرب: "إن الأراضي التي حاربت من أجلها آذربيجان هي أراضٍ آذربيجانية، وليست أرمينية". من هنا، نجد أنه حتى الدياسبورا الأرمينية، باستثناء حزب "الطاشناق" في العالم، كانت محرجة وغائبة عن التأثير في الولايات المتحدة وكندا وفرنسا، كون معظمها يدور في الفلك الغربي لا الروسي ويؤيد باشينيان. فكانت النتيجة ترك أرمينيا لمواجهة الكارثة.
وعلى ما يبدو، فإن موسكو التي لوت ذراع باشينيان لن تركن إلى الثقة فيه، وتنتظر استكمال تنفيذ اتفاق قره باغ لكي تبني على الشيء مقتضاه: إمّا التخلّص منه أو سَوقه كما تشاء. فالحاجة المؤقتة إلى رئيس الوزراء الحالي قائمة، وتمّ تقديم وزير الدفاع كبش فداء للحرب بدلاً منه. وفي انتظار الأوّل من الشهر المقبل، تاريخ انسحاب القوّات الأرمينية من آخر الأراضي التي تسيطر عليها وإعادتها إلى باكو، ستكون الأنظار موجّهة إلى ما يمكن أن يحدث بعد هذا التاريخ.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا