أثار تبنّي قانون «الأمن الشامل» في فرنسا معارضة شديدة على المستوى الوطني العام؛ كونه أوجد إطاراً قانونياً لتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية، وتطبيع الممارسات القمعية وشرعنتها. وفتح هذا النص التشريعي المثير للجدل آفاقاً رحبة لنموّ أسواق الصناعات العسكرية - الأمنية، وسَلّط الضوء على الصلة الحميمة بين الرأسمالية النيوليبرالية والمراقبة الشاملة. وكان كتاب «نقد الأمن، التراكم الرأسمالي وفرض الاستقرار الاجتماعي»، الصادر في عام 2017، قد دافع، من منظور ماركسي، عن فرضية أن «الأمن» هو بين المرتكزات التأسيسية للرأسمالية. ووفقاً لهذه الفرضية، فإن «الأمن» ليس مجرّد ضرورة أيديولوجية للطبقات المسيطرة، ولا هو ترجمة لرؤية قطاع من الأجهزة الأمنية نجحت الأخيرة في فرضها على بقية مكوّنات المجتمع. الرأسمالية الأمنية في الواقع هي مرحلة جديدة في مسار هذا النظام، الذي لم يعد يبيح وجود أيّ عقبة تعرقل عمل آليّاته. المنطق البنيوي للنظام الرأسمالي يجنح نحو الخيارات القمعية للتحرّر من الضوابط والمخاطر التي تعترض حسن سير هذه الآليات. وتحتلّ تلك الوظيفة المركزية للأمن في تأمين شروط إعادة إنتاج الرأسمالية حيّزاً مهمّاً من مساهمات عالم الاجتماع والكاتب الفرنسي، ماتيو ريغوست.
بحسب ريغوست، فإن «التصحيح الهيكلي النيوليبرالي للرأسمالية وَلّد أزمة دائمة. هو يستهلك الموارد بسرعة هائلة، ويدمّر الكوكب، ويضطّهد ويستغلّ بشكل متزايد الطبقات الشعبية، ويواجه هبّات وانتفاضات متصاعدة. الرأسمالية الأمنية هي الاقتصاد السياسي لهذه الحرب الداخلية». ويرتبط ازدهار صناعات المراقبة والقمع والاعتقال بضرورة قمع انتشار ظاهرة الانتفاضات الشعبية. لكنه يُمثّل، في الوقت عينه، سوقاً اقتصادية وسياسية فائقة الأهمية. فعقيدة الحرب البوليسية، المسمّاة «مكافحة التمرّد»، باتت مرجعاً لحكومات تتمتّع بموارد ضخمة، ما عزّز نموّ أسواق هائلة للصناعات الأمنية.
نحن أمام نمطين متّصلين من أنماط السيطرة، غايتهما تعميق الانقسامات الاجتماعية - العرقية


حَكَمت عقيدة «مكافحة التمرّد» استراتيجيات الإمبرياليات الغربية وتكتيكاتها خلال تدخلاتها الخارجية منذ خمسينيات القرن الماضي. «تَحوّلت هذه العقيدة، وما تتضمّنه من ممارسات بوليسية ومن عسكرة للقمع إلى نماذج إرشادية، خاصة عندما اعتَبرت أن الشعوب المستعمَرة بدايةً، والسكّان بشكل عام في مرحلة تالية، هم البيئة المعادية التي ينمو وسطها التهديد الشامل. شَكّلت دينامية مكافحة التمرّد الهادفة إلى خوض الحرب «وسط» السكّان وضدّهم، وإعادة هندسة المجتمع بإشراف سلطة عسكرية - بوليسية، حقبة رئيسة في تاريخ النظام الأمني. غير أن الادّعاء الملازم لهذه العقيدة، بالحفاظ على الاستقرار والأمن، بغية إسباغ الشرعية عليها وتسويق سلع الصناعات المستندة إليها، «لم يمنع انتشار نزاعات منخفضة التوتر ولكن طويلة الأمد بسببها»، وفقاً لعالم الاجتماع الفرنسي.
تاريخ السجون، وكذلك الشرطة والحرب، وثيق الصلة بتطوّر الرأسمالية والاستعمار. تَحوّلت السجون إلى سوق مهمّة في الرأسمالية الأمنية. وبرأي ريغوست، فإن «المرحلة الجديدة من الرأسمالية تعيد إنتاج التمييز الاجتماعي - العرقي الذي تستند إليه الهرمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية». وتتيح إعادةُ الهيكلة الأمنية إنقاذَ الرأسمالية العرقية عبر الاستثمار في أسواق الحروب الدائمة المنخفضة التوتر.
عرفت الرأسمالية، في جميع مراحلها، أنظمة «استثناء مديدة»، لكن ماتيو ريغوست يلفت إلى سمة خاصة لمرحلتها الأمنية الراهنة. «كثيراً ما شهدنا انتقالاً للخبرات ولتقنيات السيطرة بين أنماط الاستعمار الخارجي والداخلي. لكن في هذه المرحلة المستجدّة من تاريخ الرأسمالية، نلاحظ لجوءاً متزايداً إلى النمط الاستعماري في التعامل مع شرائح بيضاء من الطبقة العاملة والبورجوازية الصغيرة من قِبَل حكومات المراكز الإمبريالية. غير أن تعديلات أُدخلت على هذا النمط لعدم الإفراط في القتل. نلاحظ أيضاً تكريساً لازدواجية المعايير خلال عمليات التدقيق في الهويات والمراقبة والقمع. تتلازم مستويات الشراسة القمعية مع الأصول العرقية للمستهدَفين بها. في الأحياء الشعبية التي تقطنها أغلبيات ذات أصول مهاجرة، وكذلك في السجون وعلى امتداد الحدود مع الخارج، الشراسة البوليسية يومية، ومتجذّرة، وحميمة. أمّا في مقابل الحركات الاجتماعية التي تضمّ شرائح متنوّعة عرقياً واجتماعياً من الطبقات الشعبية والبورجوازية الصغيرة المفقَرة، فإن هذه الشراسة يُعبَّر عنها من خلال استخدام عنف موضعي بهدف إلحاق الأذى، وأحياناً جراح بالغة، بالمحتجّين، خاصة إذا اعتمدوا أشكالاً هجومية وتصعيدية من الاحتجاج. نحن أمام نمطين متّصلين ولكن متمايزين من أنماط السيطرة، غايتهما تعميق الانقسامات الاجتماعية - العرقية. المطلوب هو تكريس الأبارتهايد الاجتماعي، وسحق أيّ جهود للتحالف والتنسيق بين نضالات المهاجرين وسكان الأحياء الشعبية وتلك التي تخوضها بقية الحركات الاجتماعية».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا