شهرٌ واحد يفصل عن الخروج البريطاني من السوق الأوروبية الموحّدة، وعن المهلة النهائية للتوصّل إلى اتفاق تجاري بين الطرفين. فترةٌ لا تزال مفتوحة على كلّ الاحتمالات، وسط جوّ من الحذر يبديه المفاوضون الأوروبيون والبريطانيون، على الرغم من أن رئيس الحكومة البريطانية، بوريس جونسون، يحاول إشاعة جوّ من التفاؤل، غير مبنيٍّ على أسس واضحة بعد. وفي انتظار ما ستحمله الأيام المقبلة، حقّقت لندن وبروكسل، أمس، اختراقاً بسيطاً تَمثّل في التوصّل إلى اتفاق حول مجموعة ترتيبات تتعلّق بإيرلندا الشمالية بعد «بريكست». اتفاقٌ ستُلغي لندن بموجبه ثلاثة بنود مثيرة للجدل في مشروع القانون المطروح على البرلمان، كان من شأنها أن تحرم بروكسل من أيّ دور في الاتفاقات التجارية المقبلة بين المقاطعة وإيرلندا. وجاء هذا الاتفاق نتيجة مباحثات بين الوزير البريطاني مايكل غوف، ونائب رئيسة المفوضية الأوروبية ماروس سيفكوفيتش، حول سبل إبقاء العلاقات التجارية من دون عوائق حدودية، وضمان عدم وجود أيّ تقييد للتنقّل والتواصل بين إيرلندا الشمالية وبريطانيا.
على المدى المنظور، من شأن هذا الأمر أن يسهّل مهمّة جونسون خلال زيارته بروكسل، بعدما طالب الوزير الألماني للشؤون الأوروبية، ميك روث، بأن تعيد لندن بثّ «الثقة» في العلاقات. وبعد جولة المحادثات الأخيرة بين الوفدين المفاوضين في بروكسل، أجرى جونسون، ليل أول من أمس، محادثات هاتفية مع رئيسة المفوّضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، وجّهت له خلالها الأخيرة دعوة إلى الحضور شخصياً إلى عاصمة الاتحاد الأوروبي. إلّا أن الجانبين أشارا، في بيان مشترك، إلى استمرار التباعد في شأن قضايا عديدة أساسية. ولذا، قال جونسون، خلال تفقّده مستشفى في لندن استعداداً لإطلاق حملة التلقيح ضد فيروس «كورونا»: «أنا دائماً متفائل، لكن يجب أن أكون صريحاً معكم، الوضع حسّاس حالياً». وإذ أضاف أن «على أصدقائنا أن يدركوا أن المملكة المتحدة خرجت من الاتحاد الأوروبي» لتحقيق السيادة البريطانية، فقد أكد «أنّنا لا نزال بعيدين عن ذلك»، متابعاً أن البلاد أمام خيارات كثيرة.
سيمثّل غياب الاتفاق التجاري صدمة مزدوجة مع أزمة الوباء


وفيما من المقرّر أن يشارك قادة الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في قمّة ستُعقد غداً الخميس، فقد عقد كبير المفاوضين الأوروبيين ميشال بارنييه، ونظيره البريطاني ديفيد فروست، جولة محادثات في بروكسل، للوقوف على التقدّم الذي تحقّق وإعداد تقرير لمرجعيّتيهما. وبعدما أطلع وزراء الاتحاد الأوروبي على آخر المستجدات، أكد بارنييه أن موقف التكتّل موحّد، وجاء في تغريدة أطلقها: «لن نضحّي بمستقبلنا أبداً من أجل الحاضر. الوصول إلى سوقنا يأتي بشروط».
في هذه الأثناء، لا تزال المحادثات متعثّرة بسبب المواضيع الثلاثة نفسها: وصول الصيادين الأوروبيين إلى المياه البريطانية، وآلية حلّ الخلافات في الاتفاق المستقبلي، والضمانات التي يطلبها الاتحاد الأوروبي من لندن في ما يخصّ المنافسة مقابل حق بريطانيا في الوصول إلى سوقه الهائلة من دون رسوم ولا حصص. ومنذ انفصالها الرسمي عن الاتحاد الأوروبي في 31 كانون الثاني/ يناير، لا تزال المملكة المتحدة تُطبّق القواعد الأوروبية. أمّا خروجها الفعلي من السوق الموحّدة والاتحاد الجمركي، فسيحصل في 31 كانون الأول / ديسمبر الحالي، في نهاية الفترة الانتقالية. وفي غياب الاتفاق، ستخضع المبادلات بين لندن والاتحاد الأوروبي، اعتباراً من الأول من كانون الثاني/ يناير، لقواعد "منظّمة التجارة العالمية"، ما يعني أنه سيتمّ فرض رسوم جمركية وحصص، ما يثير خطر حصول صدمة جديدة في اقتصادات أضعفتها أصلاً أزمة وباء «كوفيد - 19».
ومع أو من دون اتفاق، يُتوقّع أن يتسبّب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في مزيد من التأرجح في الاقتصاد البريطاني، ولا سيّما أن التحسّن المأمول يبدو أنه سيتطلّب وقتاً. وإذا كان حجم الأضرار يعتمد على نتيجة المفاوضات الجارية حالياً بين لندن وبروكسل، فإن الخبراء الاقتصاديين يتوقّعون أن يكون «بريكست» مؤلماً اقتصادياً. وتذهب جامعة لندن للاقتصاد المرموقة إلى حدّ توقُّع أن يكون «بريكست» من دون اتفاق مكلفاً أكثر من «كوفيد - 19»، لأن تداعياته ستكون ظاهرة لفترة أطول. ولم تُخفِ الحكومة المحافظة السابقة تأثير «بريكست» في المستندات الرسمية التي كُشف عنها أواخر العام 2018. فبحسب التقديرات آنذاك، سيتسبّب الانفصال «من دون اتفاق» في تراجع الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 7,6% على مدى 15 عاماً. وفي حال تمّ التوصل إلى اتفاق، فسينخفض بنسبة 4,9%، وهو تأثير كبير إلى حدّ ما، ويشكّل مؤشراً للتحدّي المتمثّل في مغادرة الاتحاد الأوروبي.
بمعنى آخر، فإن غياب الاتفاق التجاري سيشكّل صدمة مزدوجة مع أزمة الوباء، وسيُترجَم اعتباراً من الأول من كانون الثاني/ يناير من خلال إعادة فرض قواعد "منظّمة التجارة العالمية" مع رسوم جمركية تكون أحياناً باهظة على مجموعة كبيرة من المنتجات، بدءاً بقطع السيارات وصولاً إلى اللحوم. كذلك، ستشهد شركات كثيرة ارتفاع تكاليفها في ليلة وضحاها، كما يُتوقع أن تزيد الأسعار بالنسبة إلى المستهلكين، خصوصاً في مجال الأغذية والمنتجات الطازجة التي يتمّ استيراد قسم كبير منها من الاتحاد الأوروبي. وقد يفاقم هذا الواقع انهيار الجنيه الاسترليني، ما سيزيد أسعار السلع المستوردة. غير أن اتفاقاً تجارياً بعيد كل البعد عن حلّ المشاكل كافة، وسيبقى أقلّ فائدة من السوق الموحّدة التي تضمن مبادلات سلسة مع القارة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا