لا يستقرّ المشهد السياسي الداخلي في إسرائيل على حاله طويلاً. إذ ينتقل بلا انقطاع من أزمة إلى أخرى، آخرها إمكانية حلّ الكنيست والتوجّه إلى انتخابات رابعة خلال عامين فقط، وسط انشقاق داخل حزب "الليكود"، انسحب أيضاً على حزب "أزرق أبيض". والانتخابات، إن جرت، ستؤدّي، بحسب ما هو متوقّع، إلى تراجع قوة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وخروج منافسه في العامين الماضيين بني غانتس وحزبه من الحلبة السياسية، مع صعود وافد يميني جديد ترجّح الاستطلاعات حيازته مكانة مهمّة ووازنة في "الكنيست" المقبل، وهو حزب غدعون ساعر، "الليكودي" المنشقّ أخيراً عن حزبه.ولعلّ واحداً من أهمّ الاستحقاقات الوشيكة في إسرائيل هو إقرار موازنة الدولة مع قرب انتهاء المهلة المُحدّدة لذلك منتصف ليل الثلاثاء ــــ الأربعاء. وإن أخفق الائتلاف الحكومي الحالي في إمرارها، فسينحلّ "الكنيست" تلقائياً، وتجرى انتخابات مبكرة في آذار/ مارس المقبل. والخلاف على الموازنة مرتبط بأهمّ ما في اتفاق الشراكة بين "الليكود" و"أزرق أبيض"، وهو بند التناوب على رئاسة الحكومة، التي يفترض أن يُسلّمها نتنياهو لغانتس بعد أشهر. إذ يُفترض، وفقاً للاتفاق، إقرار قانون الموازنة للعامين 2020 و2021 دفعة واحدة، الأمر الذي يرفض "الليكود" أن يلتزم به، ويريد إقرار موازنة العام الحالي فقط على رغم أنه شارف على نهايته، على أن تُقرّ موازنة عام 2021 بشكل منفصل في آذار/ مارس المقبل. بذلك، يضمن نتنياهو أن يبقى رئيساً للحكومة في الفترة الانتقالية إذا ما حُلّ "الكنيست" أو أسقطت الحكومة نفسها. أما بخلاف ما تقدّم، فإن رئاسة الحكومة ستنتقل إلى غانتس، وهو ما يريد الأخير أن يضمنه في حال قرّر "الليكود" إسقاط الائتلاف (أو لأيّ سبب آخر). وبهذا، فإن الأداة الوحيدة لمنع انتقال الكرسي إلى نتنياهو هي إقرار الموازنتين معاً. أحد أوجه الخلاف، أيضاً، يتعلّق بالتعيينات القضائية التي تشمل المدّعي العام للحكومة، والتي يتعمّد وزير القضاء، وهو من "أزرق أبيض"، تعقيدها في وجه نتنياهو، الذي يريد في المقابل اختيار القضاة بما يلائم مسار محاكمته، وربّما منعها من الأصل، في حال كان هؤلاء، وتحديداً المدعي العام، متساوقين مع رئيس الحكومة، بما يدفعهم إلى تغليب مصلحته الخاصة.
يبدو مستقبل ما بعد الانتخابات مفتوحاً على احتمالات كثيرة


إزاء ذلك، تبدو حدود التسويات ضيّقة جداً. إذ إن تخلّي غانتس عن بند إقرار الموازنتين يعني عملياً تخلّيه عن رئاسة الوزراء بالتناوب، ووضع مصيره هذه المرة أيضاً بين يدَي نتنياهو، ما يعادل بحسب الإعلام العبري تحوّله إلى "خرقة" متعدّدة الاستعمالات. في الوقت نفسه، إن تَسبّب غانتس بانتخابات مبكرة، فإن استطلاعات الرأي تشير إلى أنه سيتراجع كثيراً، ولن يفوز بأكثر من خمسة مقاعد بعدما حصد 33 مقعداً (إلى جانب آخرين) في الانتخابات الأخيرة، وربّما أيضاً، وهو الأرجح، أن لا يصل إلى العتبة الانتخابية المطلوبة، ويسقط من الحلبة السياسية.
وعلى مقلب نتنياهو، لا تبدو الأمور أفضل. فبعدما كان غريمه زعيم حزب "يمينا"، وزير الأمن السابق نفتالي بينت، الذي أعطته استطلاعات الرأي مكانة الحزب الثاني من حيث عدد المقاعد في "الكنيست" المقبل، يمثّل عنصر إقلاق له في حال أراد تأليف الحكومة بعد الانتخابات المبكرة إن قرّر التوجّه إليها، فإنه اليوم يعاني أيضاً من إزعاج آخر، وربّما تهديد، يتعلّق بانشقاق "الليكودي" غدعون ساعر عن حزبه، وتوجّهه إلى تشكيل حزب جديد يخوض الانتخابات من خلاله، ويأمل أن ينافس على رئاسة الحكومة. وفيما أخّرت استطلاعات الرأي حزب "يمينا" إلى المرتبة الثالثة، فقد قدّمت حزب ساعر إلى المرتبة الثانية، بعدما قفز إلى أكثر من عشرين مقعداً. أمّا "الليكود" فالمتوقّع أن يفوز بـ 25 مقعداً، بعدما كانت حصّته 36 في الانتخابات الماضية.
في المحصّلة، يَظهر الخطر شديداً على نتنياهو. إذ وفقاً للتوقعات، سيتراجع معسكر الوسط واليسار مع خليط أحزاب "فلسطينيّي الـ 48" إلى حدّ لا يمكنه معه تأليف الحكومة، فيما ينقسم اليمين على نفسه بين معسكرين: نتنياهو ومؤيّدوه من جهة، وساعر ومؤيّدوه من جهة أخرى، وكلّ منهما غير قادر (مع تفصيل) على تأليف الحكومة (58 مقعداً لنتنياهو و59 مقعداً لساعر)، ما يعيد الأمور إلى ما كانت عليه في الانتخابات السابقة، وإن تَبدّلت الشخصيات المنافسة وباتت محصورة ضمن اليمين الإسرائيلي على اختلاف مسمّياته.
هكذا، يبدو مستقبل ما بعد الانتخابات مفتوحاً على احتمالات كثيرة، فيما المؤكد منها أن التوجّه إلى الانتخابات يهدّد نتنياهو، ومن شأنه إنهاء الحياة السياسية لغانتس وحزبه. وهذه النتيجة المتوقّعة نفسها هي التي تُرجّح أن يتّفق الاثنان على حلول وسط لخلافاتهما، وإن تَعذّر ذلك، فتأجيل الاستحقاق المقبل ــــ الداهم وفاعليته في حلّ "الكنيست"، وهو إقرار الموازنة، على الأقلّ أسبوعين آخرين، والعمل خلال هذه الفترة على إيجاد حلول يصعب توقّع ماهيتها لتشابك الخلاف وتعقيداته. حتى منتصف ليل غد، تبقى الأمور مفتوحة على أكثر من احتمال وحتى الدقيقة الأخيرة، وإن كان تأجيل موعد إقرار الموازنة، وتبعاً له تأجيل حلّ "الكنيست"، أكثر من وارد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا