قبل اغتياله بـ72 ساعة، كان قائد «قوّة القدس»، الشهيد قاسم سليماني، في لبنان. أمضى وقته في زيارة لعائلة الشهيد عماد مغنية، والأمين العام لـ «حزب الله»، السيد حسن نصرالله. زيارة أتت بعد فترة من الانقطاع افتقدت في خلالها عائلة مغنية حضوره بينها. يوم الثلاثاء، أي قَبل اغتياله بيومين، طُرق باب البيت. كانت المفاجأة أن «عمّو»، كما يناديه أبناء الشهيد عماد، هو الطارق. وكلمة «عمّو»، في الثقافة الشعبية الإيرانية، مقرونة بالروح دائماً، وهي تعني أن الشخص المنادى بها ينوب عن الأب في غيابه.
ترك استشهاد جهاد أثره على الحاج قاسم، فكان يطلب ممَّن يلتقيهم أن يدعوا له بأن يستشهد بالطريقة نفسها (الأخبار)

على العشاء، قيل له إن غيبته طالت هذه المرّة. أجاب العائلة بأنها، في الفترة المقبلة، ستضطرّ للمجيء إلى إيران لرؤيته، ذلك أن وضعه الأمني لم يعد يسمح له بالتحرّك كثيراً، خصوصاً بعد اكتشاف الخلية التي حاولت اغتياله في مدينة كرمان في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. كان سليماني هادئاً جداً. مَن حَضَر الزيارة يصفها بالغريبة. مجرّد مجيئه بدا مفاجئاً، إذ لم يكن متوقّعاً قبل رأس السنة. كعادته، أدّى واجب الصلاة، إلّا أن العائلة، وللمرّة الأولى، صلّت خلفه، واحتفظت من بعدها بسجادة صلاته وسجدته وسُبحته، وهو ما لم يحدث سابقاً أيضاً في مئات المرّات التي صلّى فيها الحاج في بيت آل مغنية. بعد استشهاده، وجدت العائلة تفسيراً لهذا كلّه.
لم يكن سليماني رجلاً عادياً في حياة عائلة مغنية. كان البيت بيته. صلّى وأكل وبكى فيه. عاش مع العائلة أفراحها وأتراحها. هذه العلاقة بين العائلتين بدأت قبل التحرير عام 2000، وتحديداً في عام 1998، عندما تسلّم سليماني قيادة «قوّة القدس»، ومغنية القيادة العسكرية لـ«حزب الله» في لبنان. خلال تلك السنوات، تردّد سليماني إلى منزل «الحاج رضوان». وقتها، كانت العائلة تسمع باسمه، لكنّها لم تكن تعرف مَن يكون. ما كان مؤكداً، أنه صديق عماد مغنية. توطّدت العلاقة بينهما، وأصبحا أقرب بعدما واجها الموت مرّات عدّة في خلال حرب تموز. في إحدى ليالي الحرب، اشتدّ القصف الإسرائيلي وانقطعت الكهرباء عن المنطقة حيث البيت الآمن الذي يحتضن مغنية وزوجته الحاجة سعدى بدر الدين وسليماني ومرافقهما. ارتأى الرجلان المغادرة. امتشقا والمرافق رشاشاتهم، ونزلوا على الدرج المعتم. تقدّمهم مغنية وخلفه سليماني والمرافق وراءهما. لدى وصولهم إلى مدخل المبنى، شدّ سليماني مغنية من كتفه، وقال له: «أنا سأؤمّن لك الطريق، عليك أن تبقى حياً».
في إحدى المرّات، يروي سليماني أنه كان في السيارة مع مغنية متجهَين من قمّ إلى طهران. على الطريق، اشتبه الأخير بسيّارة تلاحقهما، وشعرا بأنهما مهدَّدان بالقتل، فاتّجها صوب الصحراء، وقاد الأول لكيلومترات عدّة قبل العودة إلى الطريق الرئيس. يقول سليماني إن مغنية كان هادئاً جداً: «لم تتغيّر ملامحه أبداً، لا عندما اعتقدنا أننا معرّضان للموت، ولا عندما أصبحنا بأمان». في عام 2008، استُشهد مغنية في تفجير بالقرب من سيّارته. بحسب الكاتب الإسرائيلي، رونين بيرغمان، فإن سليماني كان معه قبل استشهاده بدقائق. وبعد استشهاده، تمنّى الحاج قاسم، الذي سيصبح جزءاً من العائلة، أن يحظى بالشهادة نفسها. لم يعد صديق «الحاج رضوان»، بل أصبح «عمّو» وناب عنه. حرص على متابعة شؤون العائلة، وفي إيران أصبحت الأخيرة جزءاً من عائلة سليماني، وبيته أصبح وجهتها.
في تلك الليلة، قبل استشهاده بـ48 ساعة، طلبت عائلة مغنية من سليماني عدم التوجّه إلى العراق


خلال الحرب السورية، عمل الشهيد جهاد عماد مغنية في الجولان السوري المحتلّ. كثر لم يعرفوا طبيعة عمله. قبل استشهاده بأيّام، التقى جهاد بسليماني، وأطلعه على عمله وما أنجزه، واستأذنه للتوجّه إلى هناك. في العادة، كان يرفض طلبه. لكن في تلك الجلسة، وافق وأذِن له بالذهاب. يقول أحد الذين حضروا اللقاء إن «جهاد سَحَر الحاضرين، ولم نتمكّن من أن نقول له لا على شيء». بعد استشهاد جهاد في قصف إسرائيلي استهدف سيّارته في القنيطرة عام 2015، توجّه سليماني إلى منزل جدّة الشهيد في منطقة الغبيري. بمجرّد دخوله البيت، لم يتمالك نفسه، حتّى إنه أمضى ليلته تلك في غرفة جهاد. جلس على أرضها وبكى. ترك استشهاده أثره على الحاج قاسم، فكان يطلب ممَّن يلتقيهم أن يدعوا له بأن يستشهد بالطريقة نفسها التي استُشهد بها عماد وجهاد مغنية، وهو ما نقلته زينب، ابنة القيادي في «حرس الثورة»، الشهيد حسين محرابي، عندما زار سليماني بيتها في مشهد. تروي عن لسانه: «الحاج عماد وجهاد نالا شهادة مميّزة. استشهدا في السيارة، أي أنّ أحداً لم يكن يجرؤ على مواجهتهما... الشهيد جهاد مغنية، أطلقوا صاروخاً على سيّارته واحترق بشكل كامل ولم يبقَ منه شيء كثير. كم كانت شهادته مميّزة، ادعي لي يا زينب أن أستشهد كما استشهدا».
بالعودة إلى ليلة الثلاثاء، قبل 48 ساعة من استشهاده، أمضى الحاج قاسم ليلته في بيت عائلة مغنية. يقول مَن التقاه إنه، للمرّة الأولى، لم يكترث للوقت. أطال في كلّ شيء؛ في صلاته، في جلسته، حتى إنه عندما همّ بالرحيل عاد وجلس لوقت إضافي، وهو ما لم يكن عادياً. في تلك الليلة، طلب الحاضرون من سليماني عدم التوجّه إلى العراق، فقال لهم إنه مضطر للذهاب إلى بغداد وبعدها سيبقى في طهران. حاول طمأنة العائلة، وقال إنه يزور العراق بصفته الرسمية، ولن يكون من المنطقي استهدافه. لكن مع وجود مجنون كالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في البيت الأبيض، فلا مكان للمنطق. بعد زيارته العائلة، تَوجّه سليماني للقاء السيد حسن نصرالله. عند الباب، ودّع الجميع، ثم عاد وودّعهم مرّة ثانية قبل ركوبه السيارة، وهو أمرٌ استغربته العائلة أيضاً واعتبرته إشارةً إلى شيء ما. بعد لقائه نصرالله، اتّصلت فاطمة، ابنة الشهيد عماد مغنية، بسليماني، مستبقةً توجّهه إلى سوريا. كرّرت تمنّيها عليه بعدم التوجّه إلى العراق، قائلةً إنها ليست مطمَئنّة للزيارة. أجابها: «الطقس جميل والليلة مقمرة وكأني ذاهب إلى مقتلي». ليلة الخميس - الجمعة، في الثالث من كانون الثاني/ يناير الماضي، اغتالت طائرات أميركية قائد «قوّة القدس» قرب مطار بغداد. استُشهد «عمّو» بالطريقة نفسها التي اغتيل بها عماد وجهاد مغنية. بعد وصول نبأ اغتياله إلى عائلة مغنية، عاد التاريخ بها إلى 12 شباط/ فبراير عام 2008. فالخسارة، بالنسبة إليها، كانت نفسها.



في الذكرى السنوية العاشرة لاغتيال الحاج عماد مغنية عام 2018، تحدّث سليماني، للمرّة الأولى، عن الشهيد في احتفال أقيم في طهران. خلال كلمته، كشف سليماني عن الجوانب التي لا يعرفها كثيرون عن الحاج رضوان، متطرّقاً إلى شخصيّته ودوره في المقاومة. بعد الاحتفال، توجّهت عائلة مغنية، ومَن يرافقها، إلى مشهد مع سليماني. ولدى سؤال الحاج قاسم عمّا دفعه إلى الظهور والحديث عن الشهيد، قال، وهو ينظر إلى فاطمة، ابنة مغنية، مبتسماً: «ابنتنا طلبت ذلك». حديثه عن مغنية لم يكن سهلاً بالنسبة إليه، إذ دائماً ما كان يبكيه، مثلما حدث أثناء مقابلته مع التلفزيون الإيراني عن يوميات حرب تموز، والذي دفعه إلى تأجيل تصوير الحلقة إلى اليوم التالي.


بعد وفاة الحاج فايز مغنية، والد الشهيد عماد، في عام 2017، لم يتمكّن سليماني من المشاركة في تشييع «أبي عماد»، بسبب المعارك الدائرة في سوريا والعراق. إلّا أنه لم يغب عن تفاصيل الجنازة. ففي عزّ المعارك، تواصَل مع ابنة أبي عماد سائلاً عن مكان الدفن، وعمّا تحتاج إليه العائلة. بعد فترة، حضر هو وأبو مهدي المهندس إلى لبنان لتعزية المرحومة الحاجة آمنة سلامة، «أم عماد». حاولا التخفيف عنها وعرضا عليها زيارة العراق أو إيران. لكنّ أمّ عماد أوصت القائدَين الشهيدين بالانتباه إلى نفسَيهما، بعدما تكرّر ظهورهما على الخطّ الأمامي للمواجهات في العراق. وقالت لهما: «قبل أن توصياني بالانتباه إلى نفسي، عليكما أنتما أن تنتبها».