لا شكّ في أن استشهاد قائد «قوّة القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، الحاج قاسم سليماني، مَثّل حدثاً سياسيّاً وأمنياً مهمّاً في عام 2020، إن لم نقل الأهمّ. وعلى قدر أهمّية شخصية الشهيد، وفداحة الجريمة التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية، كانت التداعيات ضخمة على مستوى الخيارات السياسية والاستراتيجية في كلا البلدين، لا بل في المنطقة بمجملها. فقد برزت العديد من المتغيّرات في ما يتّصل بهذه الخيارات، انطلاقاً من تموضع الجمهورية الإسلامية وحركتها، وتغيّر السياسة الأميركية، وصولاً إلى تفاعل محور المقاومة. ومن هنا، لا بدّ من التطرّق إلى أسئلة ثلاثة هي: إلى أين وصلت الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران؟ ماذا تَغيّر على مستوى «الحرس الثوري»؟ هل تراجعت إيران وهل حقّق ترامب مبتغاه؟في الردّ على السؤال الأول، تكفي الإشارة إلى أنه على الرغم من حدّة أدوات الضغط الأميركية على إيران ودول المنطقة، إلّا أنها عملياً لم تُحقّق أهدافها. وبحسب ألما كيشافارز، الباحثة في معهد السياسة والاستراتيجيا في جامعة كارنيغي ميلون، فإن «سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران وصلت إلى طريق مسدود». كذلك، بناءً على قراءات متعدّدة، فإن استراتيجية الإدارة الأميركية القائمة على «الضغوط القصوى» لم تنجح. وربّما، من هذا المنطلق، نشر قسم الأبحاث في الكونغرس الأميركي تقريراً أعدّه كل من كينيث كاتزمان المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط، وكاثلين جي ماكينيس المتخصّصة في الأمن الدولي، وكلايتون توماس محلّل شؤون الشرق الأوسط. وفي التقرير الصادر في الثامن من أيار/ مايو 2020 بعنوان «الصراع بين الولايات المتحدة وإيران وانعكاساته على سياسة الولايات المتحدة»، استعرض الباحثون جملة من العناصر المرتبطة بهذا الصراع الذي بلغ ذروة غير مسبوقة في أعقاب اغتيال سليماني ورفاقه بداية العام الماضي، لا يُستبعد أن تقود إلى صراع شامل.
رفضت إيران فكرة التفاوض المباشر والتسليم بالوجود العسكري الأميركي في المنطقة


ومن هنا، يأتي الجواب على السؤال الثاني: ماذا تَغيّر على مستوى «الحرس الثوري»؟ يمكن القول إن الولايات المتحدة لم تستطع استغلال عملية اغتيال سليماني ورفاقه لفرض سياساتها في المنطقة، والتي يبدو أيضاً أنها لم تحقّق النتائج المطلوبة. فـ«الحرس»، وعلى رغم فقدانه لعنصر مؤسِّس وفاعل، إلّا أنه اليوم، وبشهادة الأميركي، يزداد قوّة وصلابة وقدرات عملية وعسكرية وتسليحية، ارتباطاً بما باتت تمتلكه إيران من قدرات ردع صاروخية، فضلاً عمّا لديها من طموحات كبيرة في مجال التكنولوجيا العسكرية، والقدرة على تصنيع الصواريخ العابرة للقارّات. إضافة إلى ما تَقدّم، تمكّنت الجمهورية الإسلامية من زيادة قدرة الصواريخ البالستية المتوسّطة المدى، وتوسيع قدرات صواريخ «كروز»، وفق ما أثبتته الضربة الصاروخية الإيرانية على القواعد العسكرية الأميركية في العراق.
لذا، وباختصار، لم تتحقّق التوقّعات الأميركية؛ فلم تتراجع إيران على المستوى السياسي، من خلال القبول بفكرة التفاوض المباشر والتسليم بالوجود العسكري الأميركي في المنطقة. كما أنها شكّلت ندّاً عسكرياً للقوّات الأميركية، حيث صعّد سلاح البحرية التابع لـ«الحرس الثوري» مراقبته لتحرّك الناقلات في الخليج. ولم تكتفِ إيران بهذا، بل عملت على خرق الحصار والعقوبات الأميركية المُعلَنة وسياسة «الضغوط القصوى» التي انتهجتها إدارة ترامب، وذلك من خلال تفعيل سياستها الدبلوماسية وعلاقاتها مع الحلفاء في المنطقة، وهو ما تجلّى في كسر الحصار عن فنزويلا، وإرسال ناقلات نفط عبر بحر الكاريبي، معقل التحكّم الأميركي.
بشكل مستمر، يناقش صانعو السياسة في واشنطن قضية احتواء إيران؛ وبحسب الباحث المتخصّص في شؤون أفريقيا والشرق الأوسط، ستيفن كوك، يبدو الخيار الأكثر واقعية للولايات المتحدة هو اتباع هذه السياسة التي قادت واشنطن للانتصار على الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة. صحيح أن ترامب جَمع بين الخطاب المتشدّد وعروض التفاوض مع طهران، في موازاة اتباعه سياسة «الضغط الأقصى»، واعتباره اغتيال سليماني وسيلة لتحقيق ذلك، إلّا أنه لم يكن يقيّم بشكل صحيح توجّهات الجمهورية الإسلامية وخياراتها، ولا سياساتها الاستراتيجية. وعليه، بدأ الكثير من المحلّلين الأميركيين، منذ بعض الوقت، يتحدّثون عن حاجة الولايات المتحدة إلى استراتيجية كبرى، تُحدِّد أولويات واشنطن ومصالحها.