في الأيام الأخيرة التي سبقت تسلّم الرئيس المنتخب جو بايدن مقاليد الحكم في واشنطن، كان الحديث عن السياسة المرتقبة للإدارة الجديدة تجاه الشرق الأوسط يتّخذ زخماً كبيراً بين المسؤولين الأميركيين، السابقين في إدارة دونالد ترامب الراحلة، أو القادمين إلى تلك التي سيديرها بايدن. وفي هذا السياق، كتب المبعوث الأميركي إلى التحالف الدولي ضد «داعش»، وممثّل واشنطن لشؤون سوريا، جيمس جيفري، مقالاً في مجلّة «فورين أفيرز» بعنوان «بايدن لا يحتاج إلى سياسة جديدة للشرق الأوسط»، رأى فيه أنّ «إدارة ترامب فهِمت المنطقة بشكل صحيح، الأمر الذي لا يترك مجالاً أمام إدارة بايدن لانتهاج سياسة مغايرة». وإذ أشار جيفري إلى أنّ أولويات ترامب في الشرق الأوسط اختلفت قليلاً عن أولويات أسلافه من حيث «القضاء على أسلحة الدمار الشامل، ودعم شركاء الولايات المتحدة، ومحاربة الإرهاب...»، إلّا أنّه رأى أنّها «حقّقت تحوّلاً ملحوظاً في نهج الولايات المتحدة تجاه المنطقة».

استراتيجية جديدة
هنا جيفري تطرّق إلى وثيقة عام 2017، التي صاغها البيت الأبيض حول استراتيجية الأمن القومي، والتي «قدّمت مخطّطاً جديداً لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط». وقد دعت الاستراتيجية المذكورة إلى «تحويل التركيز ممّا يسمّى بالحروب التي لا نهاية لها، إلى منافسة القوى العظمى، وفي المقام الأول الصين وروسيا». وبالنسبة إلى المنطقة «كان هذا المبدأ يعني تجنّب التورّط في القضايا المحلية، مع الاستمرار في التصدّي للمخاطر الإقليمية. ما يعني عملياً، احتواء إيران وروسيا مع كسر التهديدات الإرهابية الخطيرة».
وفي خضمّ هذه الاستراتيجية، تحمُّل «الشركاء المحليين» العبء الإضافي إلى جانب القوات الأميركية، وفي المقابل «تجاهلت إدارة ترامب إلى حدّ كبير السلوك الداخلي لشركاء مهمّين، من بينهم مصر وتركيا وحتى السعودية، على الرغم من مقتل الصحافي جمال خاشقجي». كذلك، كانت هذه الإدارة واضحة في أنّها «ستدعم إسرائيل علناً عندما يتعلّق الأمر بالقضايا الفلسطينية»، الأمر الذي أنتج «اتفاقيات إبراهام التاريخية بين إسرائيل والعديد من الدول العربية».
لا يزال العراق يمثّل الجبهة الأكثر اضطراباً بين واشنطن وطهران


التحدّي الإيراني
يؤكّد جيفري أنّ إدارة ترامب لم تكن تريد تغيير النظام في إيران، على الرغم من أنّ «بعض صانعي السياسة (الأميركيين) كانوا ينظرون إلى هذا الاحتمال». وبدلاً من ذلك، جرى تصميم حملة «الضغوط القصوى» التي أطلقها ترامب لإجبار إيران على التفاوض بشأن صفقة أوسع تشمل أنشطتها النووية وبرنامجها الصاروخي وسلوكها الإقليمي. من هنا، يعتقد جيفري، أنّه «كان للسياسة الأميركية تأثير حقيقي على كلّ من الاقتصاد الإيراني ومغامرات إيران الإقليمية».
ولكن ربطاً بما تقدّم، يستدرك جيفري بالقول إنّه «لم يصدر الحكم بعد بشأن ما إذا كانت سياسة ترامب هذه ناجحة»، مضيفاً إنّ «الوقت وعملية صنع القرار في إدارة بايدن سيقرّران ما إذا كانت الضغوط القصوى ستفتح الباب أمام تسوية مستقبلية، أو ستدفع إيران إلى الاقتراب من إحداث اختراق نووي بعيداً عن أيّ تسوية تفاوضية».

سوريا والعراق
بحسب جيفري، «ورثت إدارة ترامب سياسة مشوّشة من أوباما»، وكانت عبارة عن ثلاثة أجزاء: جزء منها يريد إطاحة الرئيس السوري بشار الأسد عبر معارضة مسلّحة، وجزء يسعى إلى تسوية سياسية بوساطة الأمم المتحدة، وجزء آخر يريد هزيمة «داعش». وبحلول أواخر عام 2017، طوّرت إدارة ترامب سياستها الخاصّة تجاه سوريا، والتي تمثّلت أهدافها بـ»إخراج إيران من سوريا، وهزيمة داعش بشكل دائم، وحلّ الصراع الأهلي في البلاد». أمّا بحلول عام 2020، فقد كانت الولايات المتحدة قد بنت تحالفات مرِنة، حتى في الوقت الذي سعت فيه إلى تقليل التزامها المباشر في الميدان. فقد «عملت تركيا وعناصر المعارضة المسلّحة في سوريا مع الولايات المتحدة لحرمان الأسد من نصر عسكري حاسم، كما أدّت الضربات الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة على أهداف إيرانية في سوريا إلى الحدّ من الخيارات العسكرية للنظام». وبالإضافة إلى ذلك، فقد «قادت الولايات المتحدة تحالفاً دبلوماسياً دولياً كبيراً لدعم الجهود السياسية للأمم المتحدة لحلّ الصراع، وعزل دمشق دبلوماسياً، وسحق اقتصاد البلاد من خلال العقوبات». ومع ذلك، يعتقد جيفري أنه «في غياب حلّ تفاوضي، فمن المرجّح أن تستمر حرب الاستنزاف الفوضوية، وهذا ما نجح ضد السوفيات في أفغانستان». لكنّه يعود ليؤكد أنّ النتائج رهن أداء الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة جو بايدن. ويشير إلى أنّ «السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وخصوصاً في سوريا، وضعت واشنطن على خلاف مع موسكو، التي رأت أن سوريا هي المكان الرئيسي لإعادة الانخراط دبلوماسياً وعسكرياً في الشرق الأوسط».

«لم يرد ترامب تغيير النظام في إيرن» (أ ف ب )

أمّا في العراق، فقد حاولت الولايات المتحدة عزل جهودها العسكرية ضدّ «داعش» عن الصراع الأكبر ضدّ إيران. ومع ذلك، فقد «بدأت الميليشيات المحلّية الموالية لطهران تصعيد حملتها ضدّ القوات الأميركية». وقد ردّ ترامب في النهاية، وقتل قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، «الذي لا يمكن تعويضه». بدورها، ردّت إيران «بشنّ هجوم صاروخي باليستي على قاعدة أميركية، لكنّها فشلت في إلحاق خسائر جسيمة». كانت النتيجة، بحسب جيفري، «انتصاراً واضحاً، وإن لم يكن نهائياً، للولايات المتحدة». ثم يعود جيفري ليؤكّد أنّ «القوات الأميركية لا تزال في العراق، لكنّ الميليشيات مثل كتائب حزب الله لا تزال تشكّل تهديداً. وهكذا، لا يزال العراق يمثّل الجبهة الأكثر اضطراباً بين واشنطن وطهران».

نموذج للمستقبل
على مدى السنوات الأربع الماضية، حقّقت إدارة ترامب ــــ على حدّ زعم جيفري ــــ نجاحَين رئيسيّين في الشرق الأوسط: «اتفاقيات إبراهام، وتدمير الخلافة الإقليمية لداعش في العراق وسوريا». كذلك، نجحت في «مواجهة التوسّع الروسي الإضافي في سوريا وأماكن أخرى، وفهم التهديد الإيراني الدائم والمتعدّد الأوجه للاستقرار الإقليمي، وحشد تحالف لمواجهة سلوك طهران الخبيث». وفقاً لجيفري، فإنّ «كلّ هذا معاً هو نتيجة سياسية محترمة». إذ تمكّن ترامب من «تقليل الالتزامات والنفقات الأميركية المباشرة، كلّ ذلك أثناء العمل بشكل وثيق مع الحلفاء الإقليميين». ومع ذلك، «فقد يكون من الصعب على الإدارة المقبلة الحفاظ على هذا النهج مع إعادة التركيز على الاتفاق النووي الإيراني». فبحسب ما يخلص إليه جيفري «في الوقت الحالي، يريد العديد من الحلفاء الإقليميين استمرار الضغط الأميركي على اقتصاد إيران وأذرعها الإقليمية أكثر من عودة فورية إلى الاتفاق. سيحتاج بايدن إلى موازنة تلك الأولويات بعناية».