لا يعني تقويم رهانات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وخياراته، خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، أن الحديث يدور حول وقائع أصبحت من الماضي، وأن الغرض منه تعزيز الخبرة السياسية فحسب، بل هو أيضاً شرط لازم لفهم الوقائع المُتشكِّلة في الحاضر، ومدخل حصري لاستشراف آفاق المرحلة الجديدة التي بدأت وفق قواعد مغايرة لما سبق. من هنا، فإن أيّ محاولة لفهم المسارات الإقليمية ونتائجها وانعكاساتها المحلّية في كلّ من الساحات المعنيّة، بمعزل عن النتائج الكلّية لما جرى، محكوم عليها بالضرورة بالفشل، وموصوفة بالتضليل.توصيفٌ ينسحب أيضاً على محاولة البعض التذاكي في هذا الإطار، عبر أخذ جزء من الصورة المركّبة والمعقّدة، وتقديمه كما لو أنه يُعبّر عن المشهد الكامل؛ فيتمّ الحديث، مثلاً، عن الضربات الاقتصادية والأمنية التي وَجّهتها الولايات المتحدة هنا وهناك، وما ترتّب عليها من تداعيات مباشرة، من دون تقويم المسار الذي أتت في سياقه وما آل إليه، وذلك بهدف حصر النتيجة في اتجاه محدّد مسبقاً، بحيث يبدو كما لو أنه يستند إلى وقائع (هي في الحقيقة مجتزأة ومغايِرة للصورة الكلّية للجولات التي شهدتها المنطقة في عهد ترامب)، فيما يتمّ، بالتوازي، تجاهل الفشل في تحقيق الأهداف الاستراتيجية لتلك الجولات. في كلّ الأحوال، يعمد الأطراف جميعهم إلى مقاربة التجربة السابقة، ومحاولة استشراف ما بعدها، على ضوء الاستراتيجية التي يتبنّاها كلّ منهم. ويشمل ما تقدّم كيان العدو، على مستوى المؤسّسات ذات الصلة، والخبراء والمعلّقين، وحتى معاهد الأبحاث بشكل أو بآخر.
في ما يتّصل بتل أبيب تحديداً، تبدو الخلاصة الأقوى حضوراً، وربّما الأكثر تأثيراً في تقديرات المؤسّسات الإسرائيلية وقراراتها، أن الجمهورية الإسلامية في إيران تَعرّضت لضربات اقتصادية وعسكرية قاسية، لكن النظام فيها لم يسقط، فيما لم تنجح محاولات تأليب الشعب الإيراني عليه، ولم يضعف موقفه السياسي، ولم يخضع للإرادة الأميركية، ولم يرسل أيّ مؤشرات ليونة إزاء كلّ ثوابته الإقليمية والنووية والعسكرية والصاروخية، بل واصل مشاريعه التي تُمثّل تحدّياً لكلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، وصولاً إلى الانتقال من الصبر الاستراتيجي إلى المبادرة التي أحدثت تغييراً في المعادلة بشكل تدريجي ــــ تصاعدي. وفي التقدير الإجمالي، من الواضح أن ذلك سيؤدّي إلى تضييق الخيارات أمام الأميركيين والإسرائيليين، وسيدفع الجميع إلى اتخاذ قرارات مفصلية في هذا الاتجاه أو ذاك. والجدير ذكره، هنا، أن التركيز على الأبعاد المتّصلة باستراتيجية العدو لا يعني أن الفشل يقتصر على الكيان العبري، بل هو مرآة لفشل كلّ الآخرين الذين ينخرطون في المعسكر نفسه.
يجد كيان العدو نفسه في مواجهة تحدّيات لم يتوقّعها في ذروة الرهان على خيارات ترامب


بدأت عملية التقويم في كيان العدو، وتحديداً في التقدير الاستراتيجي السنوي لـ»معهد أبحاث الأمن القومي»، مطلع عام 2020، ثمّ تَرسّخت في نهايتها، قبل أن تتواصل بالمضمون نفسه على لسان رئيس المعهد المذكور، اللواء عاموس يادلين، لتحتلّ خلاصاتها لاحقاً خلفية الكثير من المقاربات والتقديرات. في هذا السياق، تناولت صحيفة «يديعوت أحرونوت» تقويم الاستراتيجية الإسرائيلية إزاء «كلّ ما يتعلّق بالمشروع النووي الإيراني»، معتبرة أن «الدبلوماسية الإسرائيلية فشلت فشلاً ذريعاً». ولفتت الصحيفة إلى أنه في عهد الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، بلغ مستوى الضغوط الإسرائيلية حدّ ظهور نتنياهو بشكل دراماتيكي في الكونغرس «من خلف ظهر الرئيس (أوباما)»، لكن النتيجة كانت أن الاتفاق النووي «لم يستجب للكثير من المطالب الأمنية الإسرائيلية المبرّرة». ولذا، جاءت ردود فعل القيادة الإسرائيلية بعد توقيع الاتفاق عام 2015، لتكشف حجم خيبة تل أبيب. في عهد ترامب، تابعت الصحيفة، تمّ الانسحاب من الاتفاق النووي «مثلما طالبت إسرائيل، وتمّ تشديد العقوبات على إيران، وأَضعفت العقوبات إيران اقتصادياً»، لكنها في ما عدا ذلك لم تُحقّق المؤمّل منها، وإنما «ردّت إيران باستئناف برنامجها النووي»، في إشارة ضمنية إلى فشل الولايات المتحدة بقيادة ترامب، وإسرائيل، في ردع طهران عن هذا الردّ المضادّ.
في ما يتعلّق بمرحلة بايدن، أشارت الصحيفة نفسها إلى أن ما يُقلِق إسرائيل هو «تقدّم إيران» النووي، الذي من الواضح أنه أخذ منحى متسارعاً بعد البدء بتنفيذ القانون الذي سَنّه مجلس الشورى برفع نسبة التخصيب إلى 20% بمعدّل محدّد كمّياً في كلّ شهر، إضافة إلى إجراءات تتّصل بالبروتوكول الإضافي. فبحسب «يديعوت أحرونوت»، هناك «ثلاث مشاكل تُقلِق إسرائيل: الثقوب في الإشراف على البرنامج؛ تقدّم الإيرانيين في استخدام أجهزة طرد مركز أكثر تطوّراً؛ والتقدّم في صنع الصواريخ والرؤوس الحربية». في هذا الإطار، تعمد إسرائيل إلى التسويق لضرورة البناء على ما فرضه ترامب من وقائع، بهدف قطع الطريق على إدارة بايدن للعودة إلى الاتفاق السابق. لكن حتى لو تمّت صياغة اتفاق جديد، فلا يعني ذلك أنه سيُلبّي بالضرورة مطالب تل أبيب الاستراتيجية، وخاصة أن طهران أظهرت تمسّكها بثوابتها في ما يتّصل بتطوير قدراتها العسكرية والصاروخية ودعم حلفائها الإقليميين. هكذا، بات من الواضح أن السيناريوات محصورة بين العودة إلى الاتفاق السابق، أو استمرار إيران في مسارها التصاعدي، أو إبرام اتفاق يلبّي ثوابت الأخيرة الإقليمية والصاروخية والنووية.
في هذه الأجواء، كثيراً ما يتمّ التركيز على أن القلق الإسرائيلي ينبع أساساً من الطاقم المحيط بالرئيس الأميركي جو بايدن، ودوره السابق في الاتفاق النووي، والذي وصفه المُعلّق العسكري في «القناة الـ 13»، ألون بن ديفيد، بأنه «نذير شؤم». إلا أن ما يبدو مؤكداً هو أن المخاوف العميقة للقيادة الإسرائيلية تنبع من الصمود والتصميم الإيرانيَّين، ومن معادلات القوة الإقليمية التي تَطوّرت كثيراً. تدرك تل أبيب أن الخيارات أصبحت ضيقة، وأن الوقت يزداد هو الآخر ضيقاً، وأن إيران حسمت أمرها، فيما على الأطراف المقابلين أن يُحدّدوا خياراتهم ويتّخذوا قراراتهم النهائية. وحتى ذلك الحين، يمكن الحديث عن مروحة من السيناريوات والخيارات، لكن الأرجح بينها إلى الآن احتدام الصراع، وفي سياقه إعادة الولايات المتحدة وحلفائها تحريك أوراق قديمة ــــ جديدة. في كلّ الأحوال، من الطبيعي أن تضع إسرائيل أهدافاً تحلم بالوصول إليها، لكن أيّاً منها لم يتحقّق حتى الآن في أيّ من الساحات الإقليمية المعنيّة. ففي السنوات الأربع الماضية، فعلت الولايات المتحدة، برئاسة ترامب، كلّ ما تستطيع أن تفعله حيال إيران وحلفائها؛ إذ شَنّت عليهم حرباً اقتصادية غير مسبوقة، ورفعت مستوى التهويل والاحتكاك في وجههم إلى حافة التدحرج نحو الحرب، كما بقيت حتى آخر يوم تبعث برسائل التهديد التي شملت إرسال طائرات «ب - 52»، محاوِلةً تغيير المعادلة في لبنان وسوريا والعراق... إلا أنها لم تفلح. مع ذلك، سيبقى الإسرائيلي يحلم ويسعى، والسبب أن لا خيارات بديلة أمامه.
في خضمّ ذلك، يبدو لافتاً ما كشفته صحيفة «يديعوت أحرونوت» من أن البعض في كيان العدو يراوده «حلم بصفقة رباعية: دول الخليج توافق على تمويل إعادة إعمار سوريا؛ في المقابل، سوريا تبعد إيران عن حدودها؛ يزيل الأميركيون العقوبات التي فرضوها على روسيا؛ روسيا، في المقابل، تنسحب من سوريا!». لكن جهات أميركية ردّت على العرض ــــ الحلم بأن «هذا لن يحدث. لقد تمّ طرح هذه الفكرة ورُفضت، والإيرانيون لا يظهرون اهتماماً بها؛ وكذلك السوريون». هكذا، يجد كيان العدو نفسه في مواجهة تحدّيات لم يتوقّعها في ذروة الرهان على خيارات ترامب، وأمام وتيرة متسارعة في تحوّلات معادلات القوة بدأ يتّضح أنها تنطوي على معالم «مفاجأة استراتيجية» لن يطول الوقت كثيراً حتى تتجلّى تداعياتها في المسارات الإقليمية والصاروخية والنووية (مع اتفاق أو من دونه). وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن إسرائيل تدرك جيداً أنها لن تُحقّق ما تطمح إليه في ما يتعلّق بمطالبها الاستراتيجية، حتى ولو بصيغة الحدّ الأدنى، لكنها لا تستطيع إشهار هذا الإقرار، لأنه ستترتّب عليه تداعيات دراماتيكية أيضاً. ومن هنا، فإن مساعيها هي وحلفاءها من واشنطن إلى الخليج تتركّز على محاولة الحدّ من الأضرار، وتعظيم الكلفة على محور المقاومة، على أمل النجاح في تبطيء مسارات تعاظمه.