تُعدّ «الوكالة الدولية للطاقة الذرّية» ميدان مواجهة بين إيران وأعدائها، ليست هي نفسها إلّا أحد أطرافه. سبق لطهران أن أظهرت استياءها، في أكثر من مناسبة، من أفعال الوكالة وأقوالها وتقاريرها ونتائج عمليات تفتيشها، والتي جاءت دائماً منحازة ضدّ الإيرانيين. وهو استياء شكّل ولا يزال محور استنكار الدعاية المقابلة، التي تدأب على التشديد على «حيادية» غير موجودة أصلاً لدى المنظّمة المذكورة. والحديث عن الأخيرة ودورها لا يستقيم من دون الحديث عن محور أعداء إيران كوجود وهوية ومقدرات، لا كبرنامج نووي فحسب.لا يتعلّق الأمر بإرادة هذه الدولة أو تلك أو مسعاها وخططها أو حتى هجماتها من أجل وقف تقدُّم البرنامج المذكور، بل بمروحة تحدّيات تتّضح أكثر فأكثر مع الأيام، وتتمظهر في العلن بعدما كانت في الخفاء، لتُظهّر حجم العداء وحِدّته، وفي المقابل ــــ وإن جادل البعض إنكاراً ــــ قوة إيران وتجذّرها وثباتها ومنعتها. الواضح أن إسرائيل والولايات المتحدة والدول الوازنة الغربية، وربّما أيضاً دول وازنة في الشرق، معنيّة بأن لا تمتلك إيران القدرة النووية. وهو ما يشاركها فيه، بطبيعة الحال، الأتباع في الإقليم من دول وكيانات وممالك وإمارات، وكذلك المؤسّسات الدولية الأممية وغير الأممية.
التكاتف بين هذه الأطراف ليس وليد البرنامج النووي الإيراني، بل مرتبط بأصل وجود إيران بهويتها الإسلامية التي وقفت وتقف في وجه إسرائيل والتبعية للولايات المتحدة. وهو تعاضد يتّسع ويضيق وفقاً لنتائج المخططات الموضوعة عبر العقود الماضية، بما يتساوق أيضاً مع مستوى التحدّي الذي تمثّله طهران لكلّ مركّب من مركّبات محور مواجهتها. وإذا كان المطلب الأول لهذا المحور هو إسقاط النظام، إلا أن فشله في تحقيقه منذ عام 1979 أجبره على تغيير أولوياته، وإن كان القصد في المحصّلة العامّة نفسه: إن لم نستطع إسقاط النظام فلنعمل على تغيير هويته، وكذلك في الطريق والسياق سحب إمكاناته وقدراته والحؤول دون مساعيه إلى تطوير بنيته وقدرته. وهنا، يأتي البرنامج النووي بوصفه واحداً من ملفّات الاقتدار الإيراني وإن كان يتقدّمها، كون نجاح الجمهورية الإسلامية في إنجازه يؤمّن لها منعة إضافية في مواجهة سيناريوات متطرّفة، كانت ولا تزال موجودة على الطاولة، وحال دون تفعيلها التعذّر وتحمّل الكلفة، وخاصة مع الرهان على خيارات بديلة منها، غير عسكرية.
نصح مسؤول سابق في الوكالة إسرائيل بأن تختار أهدافها بعناية في أيّ عمل عسكري ضدّ إيران


في المشهد الكلّي لمساعي المحور المعادي، يمكن القول إن هويّات وقدرات مركّباته تُعدّ دليلاً على ما يقابلها لدى إيران. وهذا أوّل وأهمّ ما يرد في حال موازنة الفعل العدائي في أكثر من اتجاه، والفعل الإيراني المقابل. والحديث هنا لا يتعلّق بتوجّهات أو أفكار أو تطلّعات، بل بأفعال عدائية متواصلة منذ أكثر من أربعين عاماً. جَرّب المحور المذكور كلّ ما لديه، بدءاً من الحرب التي قادها نظام صدام حسين في عراق الماضي مع ولادة الجمهورية الإسلامية نهاية سبعينيات القرن الفائت، مروراً بالضغوط والحصار والعقوبات واغتيالات القادة والكوادر والتحريض الإثني والعرقي والطائفي والحثّ على الاحتراب الداخلي، وصولاً إلى الحصار الكامل، وفي كلّ مستوى من مستويات الضغوط على اختلافها، تهديد دائم بالاعتداء العسكري، بوصفه جزءاً من الضغط نفسه ومكمِّلاً له، أو مستقلّاً بذاته.
في هذا السياق، يمكن القول، دونما مبالغة، إن «الوكالة الدولية للطاقة الذرّية» ليست إلّا واحداً من مركّبات محور معاداة إيران، بينما يُفترض أنها منظّمة غير حكومية ومستقلّة وتعمل تحت إشراف الأمم المتحدة. قيل الكثير بحق هذه الوكالة، ومن بينه أن تقاريرها ونتائج معايناتها وعمليات تفتيشها في إيران هي غبّ طلب أعداء الأخيرة، وتتساوق بشكل كامل مع توجّهاتهم ومستويات تصعيدهم وحِدّته. إلا أن الحديث المقابل عن «نظرية المؤامرة» شَوّش على المعطيات، وعَطّل تظهير الحقائق.
مناسبة الحديث عن الوكالة اليوم هي تلك الدلالات الكامنة في مقابلة أجراها نائب رئيسها السابق، أولي هاينونين، مع الإعلام العبري (معاريف وإسرائيل اليوم وجيروزاليم بوست)، ظهّر عبرها هوية المنظّمة وتوجّهاتها ونيّاتها وتواطؤها، بدعوته الواضحة إلى تشكيل حلف دولي وإقليمي لمواجهة إيران، من دون أن يغفل البعد العسكري لهذا الحلف، ونصحه إسرائيل بدراسة خيارها العسكري والمنشآت التي تريد أن تستهدفها كي تكسب مزيداً من الوقت، كون العمل العسكري لا ينهي البرنامج النووي بل يعرقله. أمّا نصيحته للإدارة الأميركية الجديدة فجاءت متساوقة مع الطلب الإسرائيلي، بأن تتمهّل في العودة إلى اتفاق عام 2015، وأن لا تستعجل مفاوضات لإبرام اتفاق جديد. والحديث هنا ليس لمجرّد مسؤول سابق في الوكالة، بل لنائب رئيسها السابق الذي تولّى فعلياً متابعة الملفّ النووي الإيراني لمدّة 25 عاماً، وكانت له اليد الطولى في تحديد توجّهات المنظّمة ونتائج عملياتها التي أجرتها في إيران، الأمر الذي يعيد تسليط الضوء من جديد على شفافيتها وحياد تقاريرها في العقود الماضية، والتي تتضح الآن صحّة الاتهامات حولها بأنها «غبّ الطلب».
الأكثر دلالة في حديث هاينونين ليس هويّته أو منصبه الرفيع السابق في الوكالة أو حتى توجّهاته العدائية لإيران خلال تولّيه منصبه، على أهمية ذلك، بل تفاعله مع أسئلة الإعلام العبري حول رأيه في الخيار العسكري ضدّ إيران. إذ نصح هاينونين، إسرائيل، بأن تختار أهدافها بعناية، وأن تَعْلم جيداً أين تهاجِِم وكيف، وأن هناك منشآت قد تلحق بها أضراراً أقلّ من غيرها، وأن العمل العسكري في ذاته يعطي إسرائيل مزيداً من الوقت ويؤخِّر إيران نووياً، لكنه لا ينهي البرنامج النووي. أي أن المسؤول الأممي لا مانع لديه من أن يُعتدَى عسكرياً على إيران، لكنه يحذّر فقط من الوقوع في أخطاء في خلال الاعتداء نفسه، أو توقُّع نتائج زائدة عن حدّها نتيجته.
هاينونين عيّنة من مجموعة أشخاص موجودين حالياً على رأس مهماتهم في الوكالات الدولية على اختلافها، وهم يمثلون ما يشبه أدوات لدى محور مواجهة إيران. وعلى ذلك، يمكن قياس قدرة المحور المذكور ومكوّناته، وفي المقابل قدرة الصدّ والمنعة.