لندن | في جلسةِ تحصيل حاصل الأسبوع الماضي، مَنح البرلمان الإيطالي بغرفتَيه، الشيوخ والنوّاب، ثقة حاسمة لحكومة وحدة شكّلها رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي، من مختلف الأحزاب الكبرى المُمثّلة في السلطة التشريعية. وحصلت الحكومة على تأييد 262 صوتاً في مجلس الشيوخ، مقابل 40 صوتاً معارضاً، وامتناع اثنين من الأعضاء عن التصويت، في حين محضها مجلس النواب ثقته بأغلبية 535 صوتاً، مقابل 56 صوتاً ضدّها، وامتناع 5 عن التصويت. وبذلك، يكون دراغي رئيس الوزراء الـ30 منذ قيام الجمهورية (عام 1946)، وحكومته الـ67 في بلد طالما افتقد إلى الاستقرار السياسي، ويُعتبر الأشهر في العالم لناحية قِصر عمر حكوماته.دراغي، الذي تُطلِق عليه الصحف الإيطالية لقب «سوبر ماريو» بحكم علاقاته الوثيقة بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والتوقّعات عالية السقوف في شأن قدرته على نشل البلاد من أزمتها، ضَمّ إلى حكومته 25 وزيراً، بينهم 10 تكنوقراط من قلب ماكينة الرأسمالية الإيطالية، و15 سياسيين عن الأحزاب. وتولّى دانييلي فرانكو المدير العام لبنك إيطاليا (المركزي) حقيبة الاقتصاد، كما عُيّن فيتوريو كولا الرئيس التنفيذي السابق لشركة «فودافون» وزيراً للتكنولوجيا، ومارتا كارتابيا الرئيسة السابقة للمحكمة الدستورية وزيرة للعدل، فيما ستبقى وزارات الخارجية والداخلية والصحّة بيد الوزراء أنفسهم الذين شغلوها في الحكومة السابقة. وستَتمثّل «حركة خمس نجوم» بأربعة وزراء، في حين يعود حزب «فورزا إيطاليا» اليميني، الذي يتزعّمه رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلسكوني، إلى الحكومة للمرّة الأولى منذ عام 2012 بثلاثة وزراء. وسيكون لكلٍّ من «الحزب الديموقراطي» - يسار الوسط - و«الرابطة» - يمين - الذي يتزعّمه ماتيو سالفيني ثلاثة وزراء، وسيذهب الاثنان الباقيان إلى «إيطاليا فيفا» - حزب رئيس الوزراء السابق ماتيتو رينزي - وحزب «الحرية والمساواة» - يسار الوسط.
ويبدو أن الأزمة الخانقة التي تعاني منها البلاد قد أَجبرت الأجنحة المتنافسة داخل البرجوازية الإيطالية على الخضوع لضغوط بروكسل (مقرّ الاتحاد الأوروبي)، وقبول تولّي رجل الأخيرة الموثوق، دراغي، إدارة المرحلة الأسوأ في تاريخ البلاد منذ الحرب العالمية الثانية. وبالفعل فقد اصطفّت الأحزاب في عرضٍ نادر للوحدة وراء «سوبر ماريو»، على رغم أن برامجها السياسية التي انتُخبت على أساسها تتناقض كليّاً مع ذلك: من العداء المُعلَن للمؤسّسات المهيمنة (خمس نجوم)، أو الدعوة لاستعادة السيادة من بروكسل وتنفيذ «إيطالكست» على نسق «بريكست» البريطاني (حزب «الرابطة»). ويأتي هذا فيما وجد الآخرون، يميناً ويساراً، أنه من الأفضل الانحناء للضغوط الأوروبية والاشتراك في الحكومة، كي لا تتهمّش المصالح التي يمثّلونها عند تقاسم الغنائم. في المقابل، تمرّد 15 من أعضاء مجلس الشيوخ على تعليمات حزبهم (خمس نجوم)، وصوّتوا ضدّ حكومة دراغي في جلسة منح الثقة، لكنهم الآن مهدّدون بالفصل. وكان دراغي، قبل عرض حكومته على البرلمان، حصل على تأييد كونفدرالية كبار الصناعيين الإيطاليين (كونفنداستريا) النافذة، وأشاد به قادة نقابات العمّال الذين يلعبون أدوارهم - تاريخيّاً - لمصلحة الطبقة الحاكمة.
من الواضح أنّ مقدّرات الدولة ستُوجّه لخدمة الطبقة البرجوازية الحاكمة


وألقى الرئيس العتيد، عشيّة تقدُّمه لنيل الثقة، خطاباً عاطفياً أمام مجلس الشيوخ، تحدّث فيه عن «الوحدة الوطنية» و«المسؤولية الوطنية»، واعتبر أنه لا ينبغي إطلاق صفة أيديولوجية على حكومته التي ستكون «ببساطة حكومة لكلّ البلاد». وناشد «روح التضحية» لدى السكان وإحساسهم بـ«واجب المواطنة»، وأضاف: «اليوم، وحدتنا ليست خياراً، بل هي التزام وواجب قومي». ونبّه دراغي أعضاء مجلس الشيوخ إلى عمق الأزمة التي تواجه الرأسمالية الإيطالية، وأنهم يخاطرون بانتفاضة اجتماعية كبرى إن هم فشلوا في دعم حكومته التي قارنها بـ«حكومة فترة ما بعد الحرب مباشرة، عندما تعاونت القوى السياسية التي كانت متباعدة في ذلك الوقت لمصلحة الوطن»، مشيراً إلى فترة شهدت التحاق «الحزب الشيوعي»، بقيادة بالميرو تولياتي، بحكومة برجوازية يمينية قامت بقمع التطلّعات الاشتراكية للطبقة العاملة وإنقاذ الرأسمالية الإيطالية من الانهيار التامّ.
ولفت رئيس الوزراء إلى أن بلاده سَجّلت حوالى مئة ألف حالة وفاة، وأقلّ قليلاً من ثلاثة ملايين إصابة بفيروس «كورونا» منذ تفشّي الوباء، بداية العام الماضي، 120 ألفاً بينهم موظّفون في القطاع الصحّي، تُوفّي منهم بالفعل 259 شخصاً. كذلك، انخفض متوسّط الأعمار المتوقّع لجميع السكّان في الجمهورية (60 مليوناً) بما يقرب من العامين، في حين أن الانخفاض وصل إلى خمس سنوات في المناطق التي تضرّرت بشدّة من الوباء، في مستويات قياسية لم تُسجَّل منذ عام 1946. واستشهد دراغي بإحصاءات عن توسُّع نِسب الفقر من 31 في المئة إلى 45 في المئة خلال فترة أشهر قليلة، وبأن أعداداً مضاعَفة من الإيطاليين تعتمد الآن على الجمعيات الخيرية والمحسنين للحصول على ما يسدّ رمقهم، فيما تَوسّعت فجوة الدخل بين الأقلّية الثرية والأكثرية بشكل ملحوظ. كما خسر حوالى نصف مليون من العاملين وظائفهم، في حين يُتوقّع تضاعُف هذا العدد بعد رفع قيود حكومية تجاه تسريح العمّال، بداية من الشهر المقبل. وأصيب التعليم في المدارس بكارثة، بعدما فشل 40% من التلاميذ في عمر الدراسة الثانوية (1.7 مليون طالب) في الالتحاق بنظام الدراسة عن بعد. ولم يتطرّق دراغي، في خطابه، إلى مسائل السياسة الداخلية إلّا لماماً، واكتفى بالإشارة بإيجاز إلى مسألة اللاجئين، بقوله إن «بناء سياسة أوروبية لإعادة الأشخاص الذين لا يحقّ لهم الحصول على حماية دولية أمر حاسم».
لكن تلك الرطانة لا تُخفي حقيقة أن حكومته لا تُجسّد وحدة البلاد، بقدر ما تَدمج صفوف النخبة الحاكمة لشعب منقسم بشدّة، ويتّجه نحو انفجار اجتماعي يبدو محتّماً بعدما تصاعدت التأثيرات السلبية لوباء «كوفيد - 19» بشكل خطير. إذ أمضى دراغي الجزء الأكبر من خطابه في مجلس الشيوخ في شرح نيّته تعزيز أرباح الشركات، وهو الخبير المعتّق في ذلك، كونه قاد - كمدير عام لوزارة المالية الإيطالية في عقد التسعينيات - السياسة النيوليبرالية في خصخصة الشركات المملوكة للدولة وخفض الإنفاق الاجتماعي بهدف أن تكون إيطاليا «جاهزة» للعملة الأوروبية الموحدة، «اليورو». وبعد فترة نقاهة (مجزية مادّياً) في بنك الاستثمار الأميركي، «غولدمان ساكس»، عُيّن رئيساً للبنك المركزي الأوروبي، مسؤولاً بشكل مشترك عن فرض سياسات تقشّف وحشية دَمّرت مستويات معيشة سكّان اليونان وغيرها من البلدان الفقيرة، فيما أغرق الأسواق المالية بأكوام من «اليورو».

يبدو أن الأزمة أَجبرت الأجنحة البورجوازية على الخضوع لضغوط بروكسل(أ ف ب )

ولن تخرج توجّهاته في قمّة هرم السلطة التنفيذية اليوم عن ذلك، إذ إن برنامجه يقوم على زيادة الإنفاق العام، لا للجميع، وإنما لدعم الشركات عالية الإنتاجية حصراً لأغراض تحسين قدرتها التنافسية. وسيتمّ إنفاق الحوافز الحكومية «على خلق فرص عمل جديدة، وليس لإنقاذ الوظائف القديمة»، مع تنفيذ إصلاحات هيكلية واسعة تشمل تخفيض مستوى الرعاية الاجتماعية، وقوننة المرونة الكاملة لعقود العمل، ما سيسمح للشركات بالتخلُّص من موظفيها من دون تعقيدات، وتمديد سنوات العمل قبل التقاعد، وحصول المتبطّلين على إعانات مؤقّتة فقط، مع تقديم ميزات تنافسيّة لاستقطاب رأس المال الأجنبي (وذلك يعني بالضرورة خفضاً للأجور).
ولذلك، يبدو من الواضح أن مقدّرات الدولة ستُوجّه، خلال عهد الحكومة الجديدة، لخدمة الطبقة البرجوازية الحاكمة حصراً، وستنتهي الأموال العامّة ومساعدات الصندوق الأوروبي المُخصّصة للتعافي من كارثة «كوفيد - 19» في حسابات عدد قليل من الشركات الكبرى ذات الارتباطات المعولمة، ودائماً على حساب الطبقة العاملة، الجزء الأضعف من المجتمع، والأكثرية المفتقِدة بشدّة إلى التمثيل السياسي، والأقلّ قدرة على المواجهة. وليس هنالك من شكّ في أن حزب «الرابطة» اليميني المتطرّف، الذي يدعو إلى إقامة دولة بوليسية، سيكون الشريك الأساسي لدراغي على طاولة مجلس الوزراء، في حال خرجت الأمور أمنياً عن السيطرة في أيّ وقت. باختصار، إنها حكومة حرب.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا